مذكرات نصير..*/ مؤيد بهنام                                           

مشاهد من عملية الإنسحاب/١

بعد الضربة الكيمياوية على مقر قاطع بهدينان قرفت البقاء في المقر في نفس الوقت اعتصرت روحي خيبة كبيرة من القيادات الحزبية. الوجوه القيادية بقيت نفس الوجوه، يجري ازاحتها مؤقتا احيانا، نقلها إلى تنظيمات ثانية في أحيان أخرى، حتى لو فشلت في أدائها الحزبي. بإختصار بنية التنظيم على المستوى القيادي ( محليات فما فوق ) بقيت كما هي عليه والذي كان يحدث هو في أفضل الحالات تدويرها في إطار التنظيم هنا او هناك فحسب.

انتقلت الى السرية الخامسة. وتركت رفيقتي وزوجتي سمر في المقر. ولكن قبل بدء السلطة الغاشمة بعمليات الانفال قمت باخذ اجازة من العمل في السرية الخامسة وتوجهت إلى المقر الجديد في وادي شيفه. قبل مغادرتي السرية الخامسة بدأت الأنباء تأتينا سراعا عن تحشدات القطعات العسكرية وانتشارها في كل الأماكن والاخبار اخذت تتوارد تترى بأن الاستعدادات لهجوم شامل على كردستان، أو ما كنا نسيمه نحن اصطلاحا بالأماكن المحررة بات وشيكا !

كنت متيقنا إلى حد كبير نتجة لطبيعة مجريات الأمور والأحداث ان العودة إلى السرية الخامسة ستغدو شبه مستحيلة، لأن الوضع العسكري الميداني، عقب توقف الحرب العراقية - الإيرانية، كان متجها نحو انهاء الصراع في منطقة كردستان والحركات المسلحة بكل أشكالها على نحو حاسم وسريع من قبل السلطة آنذاك.

ولم يمض على تواجدي في مقر شيفة سوى يوم أو يومين  حتى قدم احد الرفاق القياديين( واحد من العشرة المبشرين بالجنة ) إلى وادي شيفه. لم تكن بجعبة هذا الرفيق أي اجابات يمكن أن تسعف الرفاق المتواجدين في مقر شيفه في حينها وتشفي ظمأهم عن نوايا القيادة العليا للحزب واستعدادتها ازاء ما يجري من تحركات وتطورات سريعة للغاية على الأرض. على العكس من ذلك صرح ذلك القيادي، تصاحب تصريحه ضحكته البليدة المعروفة تلك بأنه " يشم رائحة مفاوضات مع السلطة "، دون أن يشرح أو يفصل ما يعنيه بهذه الجملة، مما زاد من البلبلة ومن القلق الذين كانا موجودين أصلا في نفوس الرفاق في مقر شيفه. ثم  غادر ذلك الرفيق القيادي المقر بعد يوم أو يومين، متوجها إلى منطقة صبنة في العمادية على ما اتذكر. ولم نلتقي به إلا فيما بعد في منطقة زيوة الإيرانية. عرفنا لاحقا أنه حاول النفاذ بجلده والهروب إلى سوريا غير أن محاولته باءت بالفشل ووقع في قبضة الجندرمة التركية.

قبل ترك مقر شيفه، جرى دفن جميع الأسلحة الثقيلة( أتذكر منها صاروخي استريلا المضادة للطائرات ) وجهاز اللاسلكي. جرى الإنسحاب باتجاه الأراضي التركية. هناك شاهدنا جميعا مشاهد محزنة جدا وغير انسانية بالمرة لجموع غفيرة من أهالي القرى متوجهين صوب الحدود التركية. وجوه كابية مسحوقة بمرارة وخيبة تتأبى على الوصف تماما.

مما اذكره من المشاهد التي تبعث في التنفس الألم والغثيان إلى حد لا يطاق ولايمكن وصفه قط، هو مشهد طفلين صغيرين جدا مربوطين ومحملين على جانبي بغل مثل أي شيئين عاديين ! مجرد التطلع في عيون ذينيك الطفلين المتعبة والحزينة كان مبعثا لحنق وغضب شديدين حز في النفس مثل نصل سكين قاطع وجارح. ماذا فعل هذا الشعب البسيط والمسكين والكادح لكي يجني مرارة التشريد القاسية مرة أخرى. وذنب من أن تؤول نهايته إلى هذا المصير !. لقد خلفوا ورائهم قراهم وبيوتهم ومزارعهم وحيواناتهم. تركوا كل شيء بلحظات مدركين ان بقائهم في بيوتهم وتمسكهم باراضيهم لن يجلب لهم سوى الموت من نظام مجرم، غاشم وغير متسامح. سكان تلك القرى اولرك ادركوا بحسهم وتجربتهم الفطريين أن النظام لن يرحم لا كبيرهم ولا صغيرهم ولا نسائهم ولا أطفالهم. فالفاشية  تتجلى الآن في أبشع واقذر واحط صورها. غير أن ما يزيد المأساة عمقا والما هو ذلك الحشد الهائل من تنظيمات الجحوش الكردية التي كانت تساند قطاعات الجيش وتساهم في قتل وتشريد أبناء جلدتها حفاظا على مصالحها التي انعم بها النظام عليهم !

كان معنا نحن، بقدر ما تسعفني الذاكرة ثلاثة اطفال، مشمش وسمسم ونداء. سمسم لم يكن عمره يتجاوز الخمس سنوات آنذاك. ولم يكن يقوى على المشي لساعات طويلة، في حر شهر آب اللاهب، خصوصا في الطرق الجبلية الصاعدة والوعرة في الكثير من الأحيان، مما كان يجبر والده الرفيق ابو على على حمله مسافات طويلة على ظهره. اعتقد ان رفاقا آخرين انما كانوا يساعدون الرفيق ابو علي في هذه المهمة الشاقة والمضنية جدا.

بين ظهرانينا تواجد أيضا الرفيق ابو ماهر. وليس من السهل الحديث عن الصفات الإنسانية الراقية التي وسمت شخصية هذا الإنسان ومنها بساطته وطيبة قلبه المتناهية جدا. إذ ليس عجبا ان الغالبية الساحقة من الرفاق كانت تكن له احتراما يفوق الوصف، رغم ما عاناه هذا الرفيق، على مدى سنين طويلة من عسف وظلم وتجني ونبذ غير مفهوم أو مبرر من قبل القيادة العليا للحزب.

في واحدة من تلك الصعدات الجبلية الشاقة، بدأ التعب يظهر بشكل جلي على سحنة الرفيق ابو ماهر واخذت انفاسه تتقطع لانه كان يعاني من اضطرابات في القلب. ورغم الحاحنا عليه انا والرفيقة سمر لمساعدته بتخفيف حمله عنه بأخذ علجيته إلا أنه رفض ذلك العرض رفضا قاطعا. لم يكن اباءه وعزته بنفسه ليسمحا له بذلك. وقرار رفضه انما جاء متساوقا مع اصالة شخصيته ونبلها الكبيرين.