مذكرات نصير- زيوة - أسلحة الدمار الشامل-3 / مؤيد بهنام

 في حدود الساعة الثانية ليلا طرق رفيقنا الراحل عايد باب غرفتنا :

- رفيق ابو نسرين وسمر كومو تره انضربنا كيمياوي !

كيف يمكن أن تكون الضربة كيمياوية، والافعى في سقف غرفتنا النايلوني ضلّت تلاحق طرائدها من الفئران الصغيرة طيلة ساعات الليل !  الا تتأثر الأفاعي والفئران بالحرب الكيمياوية ؟ أم أن الإصابة بالغازات الكيمياوية صفة خاصة بالبشر! هذه ما خطر بذهني ونحن نهم بالنهوض، بين مصدقين وغير مصصدقين بأن الكيمياء أدخلت إلى د حلبة الحرب . جاءت الأوامر بالصعود إلى فصيل الإسناد من أجل تجنب الغازات التي مازالت منبعثة من مواقع الانفجارات.

عرفنا أن الرفيق أبو فؤاد ( جوقي سعدون ) قد فارق الحياة قبل ساعات، هو العائد للتو من ايران، بعد علاج من مادة الثاليوم ، حيث حاول عملاء النظام تصفيته بهذه الطريقة المستحدثة لقتل الخصوم السياسيين. وكأن الموت بالنسبة للرفيق أبو فؤاد انما كان مصيرا مقدرا بغض النظر عن الزمان والمكان والأحداث.

 

نهار اليوم التالي لم أجد نفسي من المصابين. على الاقل هذا ما اعتقدت. لذا تم استثنائي من قرار الصعود المباشر إلى موقع الدوشكة في مير بدري، حيث اتجه الجميع. كلفت بأن اسرج على بغل بعض من المواد التموينية وان أصعد لاحقا إلى مير بدري.

نهار السادس من حزيران عام ١٩٨٧ كان نهارا حزيرانيا قائضا سطعت فيه شمس صيفية حارقة وانعدمت فيه حركة الريح، فتشبعت رئتي بالهواء الراكد الثقيل وانا اجري اخر الاستعدادات للالتحاق بالرفاق في حظيرة الدوشكا. المقر شبه خالي من الرفاق ويسود صمت وحزن مطبقين. رأيت قطنا المدلل يموء بنحو يدل على أنه مصاب ايضا. فالنبرة في مواءه ليست طبيعية وشابني احساس انه لعله يستنجد بي، وحينما اقتربت منه لامسد له على ظهره لكي اهدئه واطمئنه تصرف بشكل وحشي وعدائي وفر من ساحة الفصيل بإتجاه  السفح الجبلي. اعتقد انه أصيب بشيء من العمى بسبب غاز الخردل مما جعله يتصرف وكأنه قط غير مدجن !

لكن وخزا والما بدأ يدبان مثل حفيف النمل، شيئا فشيئا، في عيني، وحرقة طفيفة بدأت تتفشى فيهما. مما حدا بي لاستعجال الصعود حيث حظيرة الدوشكا. اخترت الطريق الآخر الذي يمر خلف فصيل الإسناد لأن الأشجار تحف على جانبيه وفيه ظلال وأماكن اختباء فيما لو حدث اية غارة أخرى أو أي قصف مدفعي أثناء المسير.

في أقل من منتصف الطريق الصاعد باتجاه حظيرة الدوشكا بدأ الحريق في العينين يزداد ووجدت صعوبة مع الوقت في ان احافظ على إمكانية فتح الجفنين، وهذا يعني أن الرؤيا بدأت تتضائل على نحو متسارع ومرعب. كيف لي ان اصف ما كان يحصل لعيني في تلك اللحظات على نحو متسارع ! يمكن وصف ما حدث آنذاك بأن شخصا ما يمسك بسكينة صغيرة حادة جدا ويجيل بها في بؤبؤ العينين. بدأت اوقن أني في طريقي الى أن أصاب بالعمى، وأن قرار الصعود وحدي منفردا انما كان قرارا ساذجا وغبيا بكل معنى الكلمة. بدأت افقد القدرة على البصر تباعا لذا قررت في النهاية ان أمسك بالجانب الأيسر من كرتان البغل تاركا هذا الحيوان ذو الصبر النفاذ ان يقودني لربما إلى الهدف. فجاءة هبط علي صوت احد الرفاق من حيث لا أدري : 

 

- ها رفيق ابو نسرين شتسوي اتهبد وحدك هنانه !

 

لم يكن ذلك الصوت الحنون سوى صوت الرفيق ابو لينا*، ابو عيون الزرك، تمييزا له عن رفيق آخر يحمل نفس الكنية، الرفيق ابو لينا ولد سالك.

من محاسن الصدف في عزّ تلك المأساة الإنسانية ان بعض الرفيقات والرفاق نجوا من الإصابة وأبو لينا كان واحد منهم.

غذينا السير صعودا باتجاه حظيرة الدوشكا، انا الأعمى الضرير الآن يقودني رفيقى ابو لينا. اية صدفة جميلة وما ذا كنت سأفعل لوحدي لو لم تجمعنا تلك الصدفة العجيبة ؟!

حاول ابو لينا طيلة المسافة تخفيف وقع الألم وثقله علي من خلال بعض الممازحات والكلام اللطيف من دون جدوى. فالالام لا تني تزداد والغثيان والصداع يتصاعدان وانا دهمني احساس مخيب وكئيب وكأنني غدوت ريشة في مهب ريح. لحظات عصيبة، سامة، محبطة. لحظات انكسار حقيقية يتبدى لك فيها شبح الموت الغامض بصورته الأكثر رعبا وبشاعة، وطعمه المر، كشيطان كاسح بأنياب حديدية ناتئة وقاطعة وبمخالب فظّة عديمة الشفقة والرحمة. مرة أخرى يرسل لنا النظام رسالة لا لبس فيها ولا غموض البتة. لا حدود لشروره وحقده تجاه من يناصبه العداء. ليس هناك من وسيلة غير مباحة للحفاظ على بقائه، ما من أمر محرم عليه استخدامه لاستمرار بقاء كيانه.

الأفكار تنهب راسي كلص محترف. أليس من الجنون أن نقاتل نظاما مدججا بالسلاح حتى أسنانه بهذه الطريقة ؟ اقصد اسلوب الكفاح المسلح كأسلوب رئيسي ؟ نظام لا حدود لشراسته ولا يخجل من حمايته وجوده حتى لو اضطر لابادة نصف سكان البلد أو اكثر. والانكى من ذلك أنه يحظى بتعاطف الغرب، أمريكا وأوروبا الغربية، والاتحاد السوفيتي ( حليفنا الاستراتيجي ) ومعه دول حلف وارشو ! بل ان كاسترو بلحمه ودمه، وصف السلطان الجزار ب ( صديقي ورفيقي في الكفاح ضد الامبريالية )، وكان يرسل له السيجار الكوبي الفاخر تأكيدا لتلك العروة الوثقى بينهما ؟

اتتذكرون صورة الجلاد المتغطرس وهو يدخن السيجار بطريقة لعينة متعالية حتى على رفاق حزبه محسوبة إلى أقصى درجة يخيف بها ويرهب حتى أقرب المقربين إليه وهو يطلق نظراته الإجرامية الكابية، التي تنم عن نفس ناقصة، حقودة، لئيمة ومجنونة بداء العظمة السرطاني ! نظراته السادية تلك  التي تكاد تقول للشعب: كلكم حشرات وما من معنى لوجودكم بدوني ! انا كل شيء بالنسبة لكم وبدوني لا تساوون شروى نقير.

اين مكتبنا السياسي ؟ أين سكرتير الحزب ؟ اين رب العالمين المزعوم ؟

حين وصلنا مير بدري، حظيرة الدوشكا، نفذت قواي حتى اخرها والآلام اشتد اوارها في تمزيق عيني.

بيني وبين نفسي رثيت وبكيت على حالي وعلى حال رفاقي المصابين. الضربة انما اريد لها ان تكون مجزرة مروعة، عملية إبادة جماعية، لا ينجو منها حتى الأطفال الأبرياء. استعراض عضلات النظام وتفوقه الساحق علينا، كسر معنوياتنا وشطبها وقلعها من أرواحنا.

الليلة الأولى لم تكن سوى ليلة في عمق الجحيم وحممه المشتعلة ، ليلة في مهب ريح مسمومة بثت نفحات موت مرة ومريرة. فلياتي الموت لكن بطريقة سريعة رحيمة ولا يشعر احد فيها بعذاب والم فضيعين. إذ ليس من العادلة بشيء ان يموت مناضلون ميتة شنيعة بغازات تحرق أجسادهم وأرواحهم دون شفقة او رحمة.

في تلك الليلة تعمق حنقي على القيادات الحزبية التي أرادت أن تعقد إجتماعا عسكريا وسياسيا في قاعدتنا، كاشفة صدورنا لعدو، تعرف تلك القيادة مدى تعطشه لدمائنا. لقد قدمت تلك القيادات أرواحنا لعدونا على طبق من ذهب، بطريقة تمتاز بغباء مطبق، ذلك أقل ما يمكن أن يقال عن الطريقة التي تصرفت بها والتي كادت أن تؤدي إلى مجزرة إبادة جماعية. غير أن الطبيعة وعامل الصدفة وحدهما كانا رفيقين ورؤوفين بنا فقللا من حجم الخسائر إلى حد بعيد جدا.

 

هل تصرفت القيادة الحزبية بعد الضربة بما ينسجم ويوازي مسؤولية الخطأ الجسيم والفادح الذي ارتكبته ! والذي تجسد اولا في تحركاتها الساذجة التي كانت مكشوفة تماما للعدو، ضاربة عرض الحائط ابسط قواعد الاحتراز  الامني. ثانيا في تجميع هذا العدد الكبير من الرفاق في مقر زيوة الذي كان دائم التعرض أساسا للقصف المدفعي والغارات الجوية ؟!

أم أنها تصرفت بطريقة استعلائية، وجابهت النقد بطريقة التصغير وصم الأذان كعادتها ؟! هل حاولت أن تصغي للنقد الرفاقي أساسا ؟! السؤال الاكثر أهمية هل كان لدى تلك القيادات القدرة على تقبل النقد وممارسته على ذاتها حسب ما تقتضيه وتنص عليه قواعد العمل الحزبي ؟!

هذا بعض مما سأتناوله في الحلقة اللاحقة ...

 

* استشهد الرفيق ابو لينا لاحقا في عمليات الأنفال التي شنها النظام على كردستان عام ١٩٨٨.