مذكرات نصير/ مؤيد بهنام                                        

زيوة/ مقر قاطع بهدينان

أسلحة الدمار الشامل/٢

كنا نعرف ان النظام استخدم السلاح الكيميائي في حربه مع إيران، وأيضا استخدم هذا السلاح في بعض مناطق السليمانية وان على نحو محدود جدا. ولم يعر المجتمع الدولي أية اهتمام يذكر للامر، لا شرقه ولا غربه، لهذه الجرائم الإنسانية.

وبما أن السلاح الكيمياوي ليس سلاحا تقليديا، ويمكن لمن يستخدمه ان يقتل مجموعة كبيرة من البشر خلال فترة زمنية وجيزة جدا، فإن مجرد التفكير به إنما كان يثير فزعا وخوفا هائلين لا مرد لهما في نفوسنا. إذ كنا ندرك أن النظام الفاشي انذاك سوف لن تردعه أية حجة عن القيام بذلك حالما يتخذ قراره بهذا الشأن. في الحقيقة أن الغالبية منا انما كانت على يقين أن المسألة مسألة وقت لا غير. مسألة متى واين ستحل الضربة لاغير !

مقر زيوة امتلأ بالرفاق وعج بهم بشكل لم يسبق له مثيل من قبل وكما ذكرت آنفا في الجزء الأول.  عقارب الساعة تقترب حثيثا من ساعة الصفر، من لحظة التنفيذ المباغتة والسرية، بينا الجميع في المقر ينتظرون لحظة تقديم وجبة العشاء. في الغالب فإن الرفاق ينتشرون على شكل مجاميع خصوصا في الساحة الموازية لساحة فصيل الحماية، التي تتوسط المقر. لكن حدث ما جعل أقل عدد ممكن من الرفاق يتجمعون هناك في تلك الأمسية الكئيبة. فغالبية الرفاق إنما تواجدت في الساحة التي تجري فيها مباراة كرة قدم بين أنصار الحزب، والرفاق من حزب سازمان الإيراني. إذ تم الاتفاق في اليوم الماضي على أن تبدأ تلك المباراة بحدود الساعة السادسة.

فيما لم يبق في الساحة المقابلة لساحة فصيل الحماية، غير مجموعة قليلة من الرفاق يمكن عدهم على أصابع اليد الواحدة. في تلك الساحة يوجد أيضا حمام الفصيل حيث كانت إحدى الرفيقات تستحم فيه في تلك الساعة ( الرفيقة سمر )

لم يكن أي شيء يشي سوى بمساء صيفي حزيراني هاديء وجميل. ثم فجاءة بدأ هدير الطائرات يتناهى إلى اسماعنا ويقترب إلينا بسرعة. وحينما صارت الطائرات تجوب فوق سماء المقر توقفت مباراة كرة القدم ( كنت أنا شخصيا ضمن اللاعبين ) وتفرق الجميع في كل الاتجاهات باحثين عن ملاجيء أو مخابيء تقيهم شر ما سيأتي. غير أن كل شيء حدث بسرعة جنونية. إذ ألقت الطائرات حمم الموت على س كل غاز الخردل السام. الهدف لم يكن سوى قتل اكبر عدد ممكن من المتواجدين في وادي زيوة، ذي المساحة الضيقة،  المحاط بقمم جبلية على شكل نصف دائري، ويحده نهر الزاب من جهة الشرق.

الغارة مثلما تبين فيما بعد خطط لها بدقة لأن تكون سريعة، قاتلة ومميتة.  فالصورايخ الحاوية لغاز الخردل أسقطت على السفوح الجبلية المحيطة بوادي زيوة، على شكل نصف دائرة على نحو  ينسجم مع التضاريس الطبيعية للمقر. كما أن الطائرات ألقت على الأقل بصاروخين في الساحة المركزية المقابلة لساحة فصيل الحماية. فيما لم تسقط الطائرات صورايخها المعبأة بغاز الخردل السام في المكان الذي كانت تجري فيه مباراة كرة القدم، حيث تجمع عدد غفير من الرفاق. هذه الصدفة العجيبة كانت كفيلة بتقليل حجم الإصابات والخسائر في الأرواح في الدقائق الأولى من الضربة الكيمياوية إلى حد بعيد جدا.

لذا فإن الرفاق الذين كانوا جالسين في تلك الساحة على الصخور، يتجاذبون اطراف الحديث ( الرفيق ابو فؤاد، الرفيق رزكار والرفيق ابو ليلى)*، استنشقوا كميات كبيرة من الغاز في الدقائق الأولى وعلى نحو سريع وكثيف وهو ما تسبب في نتائج خطيرة لا حقا ساذكرها لاحقا.

ما زلت إلى الآن أتذكر دون أدنى لبس ان أصوات الانفجارات هذا المرة لم تكن بتلك القوة التي الفناها واعتدنا عليها كما في المرات السابقة، وأنه بعد أن انهت الطائرات غارتها السامة وانسحبت من سماء المقر، تجمعنا نحن في فصيل الحماية يخامرنا شك كبير حول طبيعة ما ألقي علينا من قذائف. وبدأت فكرة ان نكون قد تعرضنا إلى ضربة كيمياوية تراودنا بقوة وتحتل حيزا اكبر في تساؤلاتنا وحيرتنا، ولان الكل بدأ يشمُّ رائحة غاز غريبة لم نألفها في الغارات السابقة ابدا.

واتذكر أيضا اننا تحلقنا حول الرفيق ابو جميل ( توما توماس ) وهو يحدق  بوجوهنا المستفسرة والحائرة. لم أر من قبل الرفيق أبو جميل في حيرة وارتباك من أمره إلا في تلك اللحظات العصيبة للغاية. فهو غالبا ما يكون واثقا جدا من نفسه في الملمات والأمور والخطب العسكرية ويتصرف ويصدر التعليمات والأوامر وفقا لذلك. لكني شهدته ولأول مرة في تلك الدقائق المشؤومة يلتفت إلى احد الرفاق الذي كان معروفا بسعة اطلاعه ومعرفته بالسلاح الكيميائي، ويوجه له سؤالا مباشرا :

- رفيق اشتعتقد هذا سلاح كيمياوي لو لا ؟

- لا رفيق ابو جميل ما اتصور ان هذا سلاح كيمياوي.. *

صدرت التعليمات بعد ذلك بالتزام الهدوء وعدم التطيّر والعودة إلى الحياة الطبيعية.

للحقيقة ارتفع صوتان لرفيقين آخرين يؤكدان ان الضربة هي بالسلاح الكيمياوي، إلا أن الرفيق ابو جميل مال واستكان إلى الرأي الأول. وصدرت التعليمات وفقا لذلك بالتزام الهدؤ وعدم التطير.

بحلول الظلام، انسحب الرفاق إلى قاعتهم وغرفهم، وهذا يعني أن غالبية الرفاق الذين خلدوا للراحة أو للنوم انما كانوا يستنشقون نفحات الموت عبر غاز الخردل السام والقاتل، بهذا القدر أو ذاك.

وانسحبت أنا مع رفيقتي سمر إلى غرفتنا واستسلمنا للنوم لنصحو بعد ساعات على صوت رفيقنا الراحل عايد، وهو يصرخ بنا بقوة :

- رفيق ابو نسرين، رفيقة سمر كوموا بسرعة ..انضربنا بالكيمياوي !

كانت الأوامر قد صدرت بالصعود إلى فصيل الإسناد الذي يقع على سفح جبلي أكثر ارتفاعا. هناك وجدنا مجموعة كبيرة من الرفاق قد جاءت قبلنا. ثم أخذ عدد الرفاق القادمين بالتزايد تباعا. ومن المشاهد التي لا تبارح ذاكرتي هي رؤية الرفيق الراحل ابو ماهر ( ثابت حبيب العاني )، وهو يطلق صرخات ألم عميقة بين الفينة والأخرى، لأن صعوبة التنفس اثرت على نبض قلبه المريض أصلا. اكملنا ليلتنا على سفح فصيل الإسناد.  غير أن هذه الحكاية المضنية والمؤلمة لم تنته عند

الحد.

* لا أتذكر أن كان بصحبتهم رفاق آخرين انذاك...

* لا أحمل أحدا من الرفاق أية مسؤولية عما آلت إليه الأمور سوى القيادات الحزبية، التي جمعت ذلك العدد الهائل من الرفاق في مقر زيوة ضاربة عرض الحائط كل المحاذير والاحتياطات الأمنية والعسكرية في حينها.

يتبع/