مذكرات نصير .. زيوة .. مقر قاطع بهدينان .. أسلحة الدمار .."1" / مؤيد بهنام 

نحن الآن في شهر حزيران من عام ١٩٨٧. فمن الناحية الافتراضية يمكن أن نجعل الزمن يتقهقر إلى الماضي وإرجاع عقارب الوقت إلى الوراء. الغاية من ذلك هي إعادة بناء وصياغة حدث مهم للغاية، إلتقاط تفاصليه الكثيفة المرعبة والخانقة، تتبع لحظاته الهادرة، كعصف ريح  مزمجرة. أولا عن طريق إعادة سرد تلك التفاصيل الدامية، وثانيا عن طريق تجميعها في لوحة شاملة. لكن السؤال الأكثر أهمية الذي يطرق العقل بمطرقته الحديدية، هل هذا ممكن ؟ . نعم ممكن إلى حد ما اذا وعينا أمرا في غاية الأهمية ألا وهو تجنب غواية الوقوع في مصيدة الرغبة في اكتشاف حقائق مطلقة. فكل شيء نسبي والحقيقة حول حدث ما تتحول إلى حقائق كثيرة، متنوعة ومتعددة، بعدد الذين عاشوا نفس الحدث.
الهدف ايضا  إعادة تمحيص ما حدث في ذلك اليوم الحزيراني من عام ١٩٨٧ الذي انقلب من أن يكون يوما من أيام شهر حزيران العادية، الساخنة والهادئة، في ثنايا كلي زيوة إلى يوم عاصف عصيب ومؤلم إلى أقصى درجات الايلام، وقع فيه مالم يكن متوقعا !
أصحيح ان ما حدث لم يكن متوقعا وجاء مثل مفاجأة عمياء للجميع ؟ هذا واحد من الأسئلة الهامة التي تحتاج إلى البحث عن اجابة. 
هل من الممكن لملمة أجزاء الصورة المبعثرة وصياغة لوحة كبيرة فيها كل التفاصيل والمفردات، بعد كل هذه الأعوام التي تصرمت ؟
هي محاولة شائكة بلا أدنى شك، طرقها وعرة وملغّمة بصعوبات جمّة، أولها قدرة الذاكرة على استعادة الأحداث بعد مرور كل هذه السنين. لكن الأسئلة ما زالت تومض في الذهن، كالبرق، فتأجج النار في جمرة الذاكرة الباردة. تلح على العقل ذلك لأنها بقت دون إجابات حقيقية في رأيي الشخصي.
لنبدأ أولا برسم لوحة ما جرى في ذلك المساء الحزيراني الصاخب الذي سأحاول الآن اخراجه من أعماق النسيان على مهل، خطوة بعد خطوة إلى ذاكرة الحاضر..
نعم لم يكن سوى يوم حزيراني، سماء صافية ورائقة، وهدوء فاتن وساحر. الارض تدور على محورها وكل شيء يدل على أن الأمور تسير كما ينبغي. لا شيء يوحي أن أبواب الجحيم ستفتح عما قريب وتمطرنا بحمم العذاب والموت، بلا شفقة او رحمة، ودون ضمير أو شرف.

المقر يومها كان يعج بالرفاق الاتين من كل حدب وصوب. في الحقيقة لا أتذكر أن مقر القاطع امتلأ بمثل هذا العدد الغفير من الرفاق، قرابة المائتي رفيق، كما في تلك الأيام المحزنة التي ذقنا فيها طعم الموت المرّ لايام متوالية.
هذا يقودنا إلى السؤال الأول، الذي لا يخلو من أهمية استثنائية، كيف فكرت القيادات الحزبية بتجميع هذا العدد الهائل من الأنصار في كلي زيوة، وفاتها الحذر الأمني أو حتى اغفلته تماما ، في ظل حركة كفاح مسلح، يفترض بها أن تنظّم على أساس مجاميع صغيرة ، متحركة، لا تمنح العدو اية فرصة سهلة لالتقاط الأنفاس، ناهيك عن توجيه ضربة خاطفة ومؤذية وفي الصميم اليها. العديد من الرفاق من مختلف فصائل المقر، إنما توجسوا خيفة حقيقية من هذا التجميع الهائل للرفاق، اعتبروه خطأ أمنيا جسيما. غير أن القيادات الحزبية صمت آذانها وبقي تفكيرها منحصرا في إجراء الاجتماع العسكري المزمع عقده لتلك القيادات فحسب، مغمضة عيونها عن خطأ فادح ومحتمل سيدفع بعض الرفاق لاحقا ثمنا فادحا بسببه. 
قلق الرفاق كان نابعا من المعرفة المتشكلة عبر تجاربهم المديدة في حرب الانصار، معرفتهم بطبيعة العدو الغاشمة، عدو لا حدود لنزعاته وشهواته الإجرامية.
وكنا نعرف ان العدو يتابع حركاتنا أول باول، يتسقط اخبارنا عبر عملائه المنتشرين في كل مكان والمنبثين حتى بيننا. وذلك ما حصل، فقد تجمعت تقارير المخبرين لدى المراكز الأمنية، وبلغت أعلى المستويات في جهاز السلطة الاستخباراتي الضخم والذي يعمل مثل خلية النحل، ليل نهار. فتقرر توجيه الضربة لمقر زيوة على نحو مباغت وسريع.
من ناحية ثانية جرى تحرك القادة الحزبيين القادمين من قواطع أخرى بمفارز كبيرة العدد نسبيا، وعلى نحو علني صارخ يفتقد الى أبسط قواعد الحذر والحس الأمنيين الأكثر بدائية.فتسربت التقارير الأمنية إلى أجهزة الاستخبارات، بسرعة فائقة، في حركة دؤوبة تشبه حركة النمل.
وفي مساء الخامس من حزيران، الساعة السابعة وعشرة دقائق، بدأ زعيق الطائرات يتناهى إلى اسماعنا، وحين أصبحت الطائرات المغيرة فوق سماء المقر، دارت حول المقر دورة واحدة أو دورتين، بهدؤ وانتظام لم نعهدهما من قبل،  ثم ألقت بعد ذلك بحمم الموت الأسود على المقر بطريقة دقيقة ومدروسة للغاية، حاويات غاز الخردل السام والمميت على شكل حلقة دائرية على السفوح المحيطة بكلي زيوة أولا، بعد ذاك أسقطت الطائرات ما يقارب الثلاثة من تلك الحاويات على الفناء المركزي للمقر، لتكتمل الضربة، حسب ما كان مخططا لها أن تكون، ولكي يكون تأثيرها كبيرا جدا قدر المستطاع، موجع وساحق ومحبط إلى أقصى درجة. وهذا ما حصل بالفعل في الساعات اللاحقة.
غير أن صدفة نادرة جدا لعبت دورا هائلا في تقليل الخسائر، وتخفيف حجم الإصابات التي لحقت بالرفاق الذين كانوا متواجدين في المقر في تلك الأمسية الكئيبة للغاية.
هذا ما ساتناوله في الجزء القادم عن الضربة الكيماوية على مقر زيوة.

يتبع/