مذكرات نصير زيوة - مقر قاطع بهدينان - حبيب ألبي / مؤيد بهنام

ابو حسن " حبيب ألبي " نقل من لولان إلى قاطع بهدينان ونسب إلى فصيلنا، فصيل الحماية، في عام ١٩٨٤ على ما أعتقد. من الوجوه الأنصارية الشعبية المعروفة. شخصية ذات نكهة خاصة يعرفها غالبية الأنصار. سليل الفرح وخليل النكتة والدعابة. له القدرة على ان يجعل أكثر المواضيع جدية موضوعا للبهجة بأسلوبه الخاص الشيق الذي يتفرد به.

ابو حسن كان منامه في أقصى الزاوية اليسرى من قاعة الفصيل. ومن الصعب على المرء أن لا يفطن ان هذا المكان مميز استثنائي بترتيباته الغريبة. فمكان منامه مرتب على مزاجه الخاص والترتيب ينسجم مائة في المئة مع جانب مهم في شخصيته، الجانب الجاد منها، الذي يعتني بالترتيب والتنظيم إلى أقصى حد.

 

حبيب ألبي اخذ على عاتقه مسؤوليتين في مقر زيوة. الاولى مسؤولية المشجب. فاعاد ترتيبه وتنظيم سجلاته بدقة تشابه دقة وتنظيم موظف جاد وملتزم ونزيه يعمل في مؤسسة حكومية !  حبيب ألبي تنكجي بارع وصاحب ذهنية متوقدة في هذا المجال. وهذه المهنة هي مسؤوليته الثانية. هو ايضا من إعاد تصميم وبناء وتنظيم الشبكة المائية التي تمول المقر بالمياه، بشكل فني يثير الاعجاب في تلك الظروف البسيطة جدا. كما أنه صمم للفصيل من مخلفات تنكات الدهن " ماركة دويا " مغسلة،  تعمل حسب نظام رشيق، وفقا لتلك الظروف البدائية.

حبيب ألبي كان في حرفته كتنكجي يصنّع المدافيء وأشياء كثيرة أخرى حسب الإحتياجات. ومن طرائفه في هذا المجال أنه في احد الايام حينما كان جالسا أمام غرفة المشجب يطرق قطعة تنك على السنديانة الحديدية، الحّ عليه أحد الرفاق عدة مرات ان يطرقها ليس بالطريقة التي يعالج بها حبيب ألبي قطعة التنك تلك وإنما بطريقة ثانية مغايرة تماما، وكأن ذلك الرفيق أراد أن يوصل رسالة بطريقة غير مباشرة، أن طريقة طرق أبو حسن خاطئة. تطلع حبيب ألبي حينها إلى ذلك الرفيق قائلا له :

 

- اعتقد رأيك صحيح رفيق !

- أي مو صار ساعة دا اكلك ونته ما مقتنع.

- لا هسه اقتنعت بالفعل..زين ممكن تلزملي القطعة من هذا المكان ؟

- طبعا رفيق

وما أن مسك ذلك الرفيق قطعة التنك حتى انهال حبيب ألبي بالمطرقة على ابهام ذلك الرفيق، فهاجت روحه وشاطت وعينيه دمعتا، واخذ يتقافز كالارنب المذعور من مرارة الوجع الذي سببته الضربة لابهامه.

 

- تعرف ليش ضربتك؟

- ليش رفيق ؟

- حتى اتوب وما تتدخل بشغلي مرة لخ !

لا اعتقد ان الرفيق  المعني حاول الاقتراب مرة ثانية من ورشة حبيب ألبي مرة ثانية، تعلم الدرس وحفظه عن ظهر قلب..

 

حبيب ألبي له موهبة عفوية في قص الحكايات بطريقة بسيطة، جاذبة ومثيرة تبث المرح والسعادة في قلوب السامعين. وليس نادرا ان يقص علينا حبيب ألبي القصة ذاتها عشرات المرات مع تغييرات عفوية في الأحداث والشخصيات وبطريقته الحيوية المبهجة :

 

- حبيب ألبي المرة السابقة حجيتها بغير شكل !

- مو نفس القصة !

- والله العظيم نفس القصة..

 

أو :

 

- حبيب ألبي سامعيها ميت مره.

- اكو واحد ما سامعها !

 

واذا حدث أن وجد رفيق واحد فقط بين الجالسين لم يسمع الحكاية المكررة عشرات المرات فإن حبيب ألبي يصاب بالغبطة ليرد مباشرة :

 

- ها الرفيق ما سامعها لازم احجيها اله !

 

فنضطر لسماعها مرة أخرى.

حبيب ألبي عقد علاقة وطيدة مع أطفال المقر الثلاثة في حينها، مشمش، مسار ونداء. يجتمعون عنده ليروي لهم ذات الحكاية، المرة تلو المرة، لكنهم يستمعون لها بذات الشغف والانبهار وتنهمر من أرواحهم وبنفس الغزارة ضحكاتهم الطفولية العذبة في كل مرة :

 

- جان اكو جماعة ركبوا عل بعران...البعران كامن يمشن... كامن يمشن...الى ان وكفن..

- وبعدين شنو صار عمو ابو حسن وره ما وكفن ؟

- كامن يمشن...كامن يمشن...الخ

هذه هي بداية الحكاية التي لا نهاية لها وليس فيها سوى هذه الجملة اليتيمة، هي حكاية دائرية.

في احد الأعياد بعض الرفيقات كن قد قررن عمل كليجة قبل العيد بيوم ومنعن اكل الكليجة على الجميع ما عدا الأطفال الثلاثة. في الساعات التي انشغلت فيها الرفيقات باعداد الكليجة كان الاطفال الثلاثة مجتمعين عند ابو حسن يحكي لهم حكايته الازلية. وعندما الح الأطفال على حبيب ألبي بتكملة الحكاية وضع عليهم شرطا هذه المرة :

 

- روحو جيبولي كليجة حتى اكمللكم القصة.. بس لا تكولون لحد هاي العمو ابو حسن !

 

وعندما تكررت العملية تم اكتشاف الجريمة من قبل الرفيقات، منعن حينها حتى الأطفال من أكل الكليجة !

 

ابتدعنا في تلك السنوات تقليدا جديدا أطلقنا عليه " ساعة صمت ". وهي ساعة يختار الرفاق ان يفعلوا بها ما يحلو لهم دون كلام ! وطبق هذا التقليد بصرامة في فصيل الحماية. غير أن بعض الرفاق وجدوا صعوبة في الخلود إلى الصمت لمدة ساعة كاملة، وحبيب البي لم يكن سوى واحدا منهم، إذ كان يتضايق من هذه الساعة جدا.

مرة تآمرنا عليه وطلبنا من احد الرفاق الشباب ان يخرق ساعة الصمت ويتحدث مع حبيب ألبي. وحينما جاءت لحظة الصفر خاطب ذلك الرفيق ابو حسن فدخل حبيب ألبي في نقاش معه. فجاءة وحسب المخطط التامري انغمر الرفاق بتوبيخ وتعنيف ابو حسن ولم ينفع صراخه بنا :

 

- هو آني ال بيديت لو الرفيق...اشو عفتوا وجلبتوا بيه !

- مو انت الجبير غير تكون قدوة !

 

في الغالب عندما كنا نقوم بعمل مقلب لحبيب ألبي نراه ينفعل ويرعد ويزبد. وعندما تنتهي لحظات الجد القصيرة وتلوح الإبتسامات الخبيثة على شفاه الرفاق، فإن حبيب ألبي سرعان ما يهدأ ليقول بعد هنيه :

 

- مقلب مو ؟

- طبعا لعد خوما جديات...

 

في السنوات الأخيرة في كردستان بدأت الحالة الصحية لأبو حسن بالتقهقر والانحراف حاله حال رفاق آخرين عديدين. لم يكن ابو حسن من النوع الصريح فيما يخص هذا الجانب، لربما حبا منه للحزب وللحركة، وحرصا منه على تاريخه النضالي الشخصي. او لمعرفته المسبقة أن قيادة الحزب عموما، وفي قاطع بهدينان خصوصا، ظلّ موقفها متحجرا، مغلقا وقاسيا، غير قابل للمداولة في هذه المسألة الحساسة والخطيرة إلى الحد الذي أدى إلى ان بعض الرفاق دفع حياته ثمنا لهذا الموقف المتعنت غير المسؤول من القيادات الحزبية.