مذكرات نصير – العبور2  / مؤيد بهنام ابو نسرين فصيل      

كنت أجلس القرفصاء واحتسي قدح شاي ولم يبق على موعد إنطلاق المفرزة باتجاه الحدود غير ساعات قليلة تشغلني أفكار عديدة تتضارب في مخيلتي القلقة والمتعبة. غلبني النعاس وذبت في قيلولة قصيرة حلمت اثنائها بحلم قصير هو  أن رفيق لا أعرفه ولم أره من قبل جاء برسالة عاجلة فيها قرار خاص باستثنائي من الذهاب مع المفرزة، قرار بعودتي إلى الشام وارجاعي إلى ألمانيا الشرقية لإكمال دراستي العليا، كما كان طموحي دائما لكن أن أحد الرفاق قطع علي حلمي الفنطازي اللذيذ هذا، رفيق جاء من المانيا أيضا. نحن نعرف بعضنا على نحو جيد جدا وقد بدت على سحنته ومن صوته المتهدج رغبة واضحة في أن يخوض حديثا حول أي موضوع كان لكي يخفي عبر ذلك قلقا جسيما انشب مخالبه في ثنايا روحه الهشة. كان حديثه مبعثرا  متقطعا وغير مترابط. سألني بالالمانية بتؤدة:

- خو مو خايف ؟

أجبته بهدوء مصطنع :

- لا أبدا ( كذبت طبعا إذ كنت خائفا قليلا او كثيرا ).. ليش دتسأل؟

رد بنبرة قلقة جدا :

- لا هيج بس ردت اجيك الوضع..اشوف شلونك قبل ما نعبر الحدود !

قلت له :

- يعني رفيق شيريد يصير...في أسوأ الأحوال نستشهد ونموت...

أجابني بنبرة تكاد تكون متهدجة :

- هيجي تشوف ؟ عله كولتك شيريد يصير أكثر من هذا...

لو كنت اعبر الحدود الآن، بشخصيتي الحالية ولنفس المهمة، بعد كل هذه السنين الطويلة وكل هذا العمر في تجاربه الغزيزة والعميقة والثرة  السلبية والايجابية منها،  لاجبت رفيقي دون أدنى تردد او شك بأنني طبعا خائف على حياتي إلى أقصى حد ممكن وانني بصريح العبارة لست مهيأ تمام التهيئة لا نفسيا ولا جسديا كما أحاول أن أوحي للرفاق الآخرين للتضحية بروحي العزيزة طوعا ! وأنه لربما كان الأجدر لي ولك رفيقي العزيز وللحزب أيضا البقاء في ألمانيا وإكمال دراستنا...الخ.

دون شك يزداد المرء ذكاء وفطنة وتقوى شكيمته وتختلف قرأته للاحداث بمضي الزمن..فعندما يكون الإنسان شابا مفعما طاقة وحيوية لا حدود لهما ويتخذ بعض القرارات المصيرية بدافع من إيمان راسخ وكبير وحماسة وعاطفة جياشتين، وهو مشبع ومقتنع  بأفكارا ثورية اقتناع غير مشروط بالنسبة له فإن طاقته وحماسته يتضاعفان وينشطران مثل انشطار خلايا سرطانية تبتلع كل مانع وحاجز طبيعي ونفسي.

عما قليل سنترك بيتنا الصغير في القامشلي قاصدين الحدود. عما قليل ستكون ولادة أخرى جديدة أو ضياع او موت زوؤام.

أنا المولود في التاسع من أيلول ١٩٥٥ واليوم أيضا هو التاسع من أيلول لكن من عام ١٩٨٣ ! يا للمفارقة والتزامن الغريبين والعجيبين في أن واحد. أيعقل أن الولادة والموت ممكن لهما ان يتزامنا في نفس اليوم ويتفقا أن يتبادلا الأدوار في ليلة هادئة وجميلة وساحرة للغاية كهذه الليلة !

مما يخفف وطأة المشاعر المضطربة وحدة التساؤلات المبرحة المتعلقة بصميم الوجود ومآله والخوف من الموت هو أن المرء ليس وحده في هذه المغامرة الرهيبة. المرء موجود ضمن مجموعة يكاد ينصهر فيها انصهارا تاما وشاملا. هو واحد من جمع كبير من الرفاق وذلك يمنحه شعورا بالقوة والاطمئنان. أن المجموعة تعمل مثل سياج مادي ونفسي يقي ويحمي ويمنع الإصابة بأي مكروه او ضرر . هذا الشعور يمنح ايضا نوع من الزهو اللذيذ ونوع من الراحة والرضى عن النفس في خضم تجليات وانبلاجات شعورية مريرة متناقضة متضاربة وعصية. ان هذا التوحد بالمجموعة التي تغذ السير الآن نحو هدف واحد يمنح المرء إحساسا عميقا وقويا يمده بقوة غامضة وعزم وقاد يمنع مسيل الخوف المنهمر في تلافيف القلب والروح ويعين لأقصى حد ممكن على التحمل والصبر. إن الالتحام بالمجموع يرفع منسوب الإرادة والمعنويات حين يميلان للهبوط في بعض الأحايين ويمنح المرء أيضا مقدارا عاليا من الشجاعة والمجازفة والتحدي.

الليل اخذ بالتمدد كافعى الانكوندا ونحن نغذ السير باتجاه الحدود. والحدود بالنسبة لنا شيء غامض ومبهم صعب الإمساك به وتخيله نحن الذين لم نعبر حدودا بهذه الطريقة السرية المجازفة من قبل وتحت جنح الظلام. الدليل يبدو وكانه واثق من خطاه إلى حد بعيد ونحن نتعقب خطواته كما تتعقب افراخ الدجاجة امهم بدافع من غريزة البقاء. كل شيء تقريبا يتوقف على حنكة الدليل ومهارته وخبرته وطبيعة شخصه وعلى الصدفة ! والصدفة عمياء لا تفرق. وما على المرء إلا أن يتمنى أن تكون صدفة جميلة تسمح بإستمرار الحياة.

العبور بهذه الطريقة الفريدة هو مغامرة ومجازفة بكل المعاني والمقاييس للذي لم يألفه من قبل ويحمل في طياته كل الاحتمالات الممكنة  وتنز منه رغبة ولذة عسيرتان على  الفهم والاستيعاب والتفسير تجرفان في مجرى تدفقهما كل مانع وعارض يقف بوجه هذه المغامرة المدوية.

إلى هذا الحد تنطفيء ذاكرتي تماما...ويحل بها ظلام وانقطاع ونسيان. وإذ علي الإستمرار في الكتابة عن عملية العبور علي القفز إلى الأمام شيئا قليلا...

 

* سأحاول في حلقات الكتابة عن عملية العبور منطلقا اولا وقبل كل شيء من تجربتي الذاتية المحضة، وثانيا أيضا من حواراتي ومشاهداتي الكثيرة والمثيرة مع العديد من الرفيقات والرفاق الأنصار الذين خاضوا تجربة العبور ذاتها بكل ما تعنيه من مخاطرات وتضحيات وبطولات....وأنا لا أطمح أن يتفق الجميع معي في كيفية وطريقة طرحي للمشاعر والخلجات والأفكار الدقيقة والحساسة للغاية التي ترافق عملية العبور قبل بدءها وأثناء حدوثها وبعد انتهاءها.. هل انتهت ؟!

 

* أحب التنويه إلى وجود فروقات هامة جدا بالنسبة لي بين عملية الإلتحاق من الداخل أو الخارج بحركة الأنصار.

 

http://www.yanabe3aliraq.com/index.php/2017-01-23-16-10-51/2017-01-23-16-12-30/12705-2019-02-24-17-57-38 العبور-١