العبور/٥/ الجزء الاخير / مؤيد بهنام

في بنافيا التركية التقينا بالرفاق ابو آذار، ابو خولة وأبو ريتا ولربما كان هناك رفاق اخرين لكني لا اتذكر غير هؤلاء الرفاق الثلاثة. استرحنا تقريبا ليلة كاملة ويوم كامل على ما أتذكر وأكلنا لحما مطبوخا ( لحم خروف او لحم معزى لا اتذكر ) مع خبز لأول مرة منذ تركنا القامشلي وصوبنا باتجاه الأراضي التركية.
لم نكن بحاجة ماسة لالتقاط الأنفاس فحسب وإنما ايضا لمثل هذه الاستراحة الطويلة نسبيا. فالكثير من الأقدام كانت متورمة وانتشرت فيها فقاعات جلدية والتعب والإرهاق ذهبا بنا كل مذهب. حتى أنني في بعض لحظات السير المتواصل اقتربت مرات ومرات من حافة الذهول والهذيان والهلوسة دون أدنى مبالغة. كيف قيض لنا مواصلة السير في تلك الظروف المفرطة في قسوتها، بطاقات جسدية معدومة تماما، في الغالب تحت رحمة الحر المرمض والعطش القاتل؟ 
اول ما فكرت به في بنافيا تلك هو أن اخلد الى النوم حتى أن الجوع الشديد لم يكن يعنيني كثيرا لأن النوم كان هو الحاجة الملحة رقم واحد.
في اليوم التالي بدءنا التأهب للمسير إلى اول قاعدة للانصار داخل الأراضي العراقية هي قاعدة كيشان والتي تبعد مسيرة يومين أو ثلاثة أيام عن قاعدة بنافيا التركية الصغيرة جدا.
لم تكن المسيرة إلى كيشان أقل مشقة وصعوبة وتعبا من سابقاتها على الإطلاق. اما عبور جبل سناط الاجرد الوعر جدا، الذي، على ما اتذكر تندر فيه عيون المياه، فهو أمر قاس وصعب ومر ومجحف للمبتدئين على شاكلتنا وقد عانينا في عبوره الامرين. فتكاثرت الفقاعات الجلدية على القدمين وانتشرت في أطراف الحوض في جسمي بقع حمراء والجميع يواصل المسير دون اكتراث حقيقي لما يمكن أن يأتي او يحصل لأن الاعياء اخذ منا كل مأخذ وعطل حواسنا الإنسانية تعطيلا يكاد يكون شاملا وكنا نشعر أحيانا ليست قليلة بالعجز والغثيان ولم يتبق في خزائننا الروحية سوى غريزة البقاء وإرادة المقاومة نتعكز عليهما في تقدمنا الموجع حتى دخلنا قاعدة كيشان. ولا أفهم لحد اليوم كيف كان الجسد يطاوع كل ذلك العناء المبرح اللانساني!
كانت تلك القاعدة تعج بعدد هائل من الرفاق. بعضهم كان يصوب إلينا نظرات مليئة بعلائم التعجب والاستغراب الواضحين اثارا في نفسي قلقا كبيرات وتساؤلات محيرة للغاية.
عرفنا فيما بعد أن هذه المجموعة من الرفاق الأنصار في طريقها إلى الشام أي انهم قد تركوا الحركة الأنصارية لسبب او آخر. كان من بينهم الرفيق ابو مخلص عضو المكتب السياسي للحزب آنذاك( المعلومة من الرفيق ابو وسن طريق ).
اتذكر أن البعض من تلك المجموعة تقرب منا قائلا بتهكم وسخرية :

- شتسوون جايين ملتحقين ما عدكم عقل....الخ..

صدمني مثل هذا الموقف والمني هذا السلوك ولكني لم اوجه لهما أصابع الاتهام قط. فلكل منا موقفه الخاص الذي لا بد من تقبله واحترامه ووجهة نظره الخاصة تجاه الأحداث التي استفزت الكثير من الرفاق استفزازا بلغ آنذاك حدوده القصوى وهي أحداث عصفت عصفا مذهلا ومدويا بالحزب وبالحركة الأنصارية. لكن لا مندوحة من الاعتراف أن مجرد التعرض لمثل هذا الموقف وبالاسلوب الذي جرى به إنما أضاف في ذلك الحين عبأ جديدا وإضافيا وحزنا باهضا وألما عسيرا على أرواحنا المنهكة أصلا وكانت تلك المشاعر الكئيبة المحتقنة فوق طاقة تحملنا التي تجاوزت حدودها المعقولة. 
نعم لقد دخلنا كردستان في تلك الفترة العصيبة الموجعة من عام ١٩٨٣ من أجل الإلتحاق بحركة الأنصار وكانت تخيم على الحركة آنذاك غيوم سوداء خانقة تنوخ بثقلها وظلالها القاتمة على الرفاق والمقرات التي يعيشون فيها دون استثناء، أجواء الخسارات الفادحة والاحباطات المدمرة والانكسارات المروعة التي تركت وستترك جروحها الكبيرة ندوبا عميقة في أرواح الذين عاشوا التجربة عن كثب، ندوبا سوف لن تندمل مهما طال الزمن.
لقد كان ذلك الزمن زمن الهزيمة المنكرة الموشح بالانسحابات المهينة وزمن جرح الكرامات. زمن التشكيك المزمن بسياسة خاطئة من جانب القيادات الحزبية والعسكرية، سياسات تخلفت عن مسار الأحداث وفشلت في مواكبة تطوراتها بالمرة، زمن الانتقاد المستشري، بحق او دونه لستراتيجية سنتها قيادة الحزب، باعتبارها الكفاح المسلح أسلوب رئيسي للنضال، وهي ستراتيجية قابلة للنقاش بلا أدنى شك. سترايجية لم تخضع إلى يومنا هذا لبحث نقدي متجرد ونزيه، ولبحث علمي وموضوعي، بعيدا عن المساجلات السطحية التي تقوم على رؤى عاطفية أو مجاملة بحتة واستنتاجات وخطابات هدفها حصد أكبر كمية من التصفيق والهتافات بحياة الحزب وحياة القيادات التي كانت مسؤولة مباشرة عما وصل له وضع الحزب والرفاق والتنظيمات العسكرية من إنهيار وتشرذم.
حتى القيم العامة كانت تتعرض انذاك للطعن والانتهاك والمحاججة والمسألة، فلم يعد أي شيء ثابت ومسلم به وغير قابل للمسائلة والتشكيك والتجريح.
لقد التحقنا نحن بالحزب وبالحركة الأنصارية آنذاك في وقت كان الحزب والحركة كلاهما ينحسران ويتراجعان وكان التماهي مع المنطق لا يعني سوى أنه زمن التراجع والإنسحاب من الحزب والحركة لا زمن التمسك بهما أو الانظمام إليهما.
ذلك كان منطق الأحداث الظاهري، منطق إعادة النظر بكامل الستراتيجة والموقف المشكك بها، منطق إعادة النظر أيضا بالموقف الشخصي من كل تلك الأمور قاطبة دون استثناء.
وأرى أن من واجبي الآن كحزبي وكنصير سابق آنذاك وبعد انقضاء كل هذه السنين، أن أقول بأعلى صوتي ودون مثقال ذرة من التردد أو الشك أن الاخفاق المروع للقيادات الحزبية والقيادات العسكرية العليا لحركة الانصار والفشل الذريع في إدارة دفة الأحداث آنذاك ( أحداث بشت ئاشان الأولى والثانية) تمخض عنه أزمات عنيفة هزت الحزب والحركة هزا عنيفا ومجلجلا في كل مفاصلهما وانتجت جوا مشوشا، محموما، مسموما ومريضا، أضعفت فيه المناعة الحصينة للكثير من الرفاق والأنصار، ينطبق ذلك حتى على الكثيرين من الرفاق الذين بقوا متمسكين بالحزب وبالحركة ولم يغادروا أرض المعركة وميدان الصراع القائم.
في تلك الأجواء العصيبة المشحونة بالتخاذل والانقسام والتطير بل وحتى بالتمرد دخلنا نحن كردستان والتحقنا بحركة الأنصار. وبغض النظر عن كل شيء، عن كل ما قيل وما سوف يقال عن تلك التجربة، فأنا شخصيا أعتبرها تجربة غنية وثرة على أقل تقدير في مجال العلاقات الإنسانية. وانا أعترف في ذات الوقت أن تلك التجربة التي اكلت من عمري خمس سنوات بالكامل ( بعض الرفاق قضوا أكثر من عشر سنوات )، هي دون أدنى شك اجمل سنوات عمري، كانت وستبقى جزءا أصيلا من شخصيتي، وبغض النظر أيضا عن قناعتي او عدم قناعتي بالتجربة، كسياسة وستراتيجية، إلا اني ما زلت أعتز بها كتجربة هامة في حياتي الشخصية والعامة لكني أيضا لا أدافع عنها دفاعا ساذجا أو طائشا وأعمى أيضا....

* قبل أن أكتب هذه الحلقة الاخيرة أجريت اتصالا هاتفيا مطولا مع الرفيق ابو وسن ( قاسم حسين ) أحد أبرز رفاق مفرزة الطريق..العزيز ابو وسن له ذاكرة حية قوية لا تجارى باسماء المواقع والاماكن التي مررنا بها منذ تركنا مدينة القامشلي وأسماء الرفاق الذين عملوا في المحطات المختلفة لمفرزة الطريق وامدني وذكرني بالكثير من المعلومات المهمة والقيمة التي استفدت منها استفادة كبيرة جدا في كتابة هذه الحلقة الاخيرة...له الف الف شكر...

مؤيد بهنام/ ابو نسرين فصيل