انصاريات -1/ مؤيد بهنام- ابو نسرين فصيل

لم أسمعها منه شخصيا، لكن رويت عن ذلك القائد الحزبي_الأنصاري، على مسامعي أكثر من مرة، من قبل العديد من الرفاق الذين عاصروه من قبلي :

- أن من لا يعرف شد كرتان بغل... لا يمكن ان يصبح نصيرا أبدا !

والكرتان باللغة الكردية هي الحمالة ( الجلال ) التي توضع على ظهر البغل.

البعض من الرفاق أكد أن هذا الإدعاء صحيح، آخرين زعموا أن الكلام منسوب إليه كذبا وآخرين سخروا منه، وأنا كنت من أولئك الساخرين من مغزى هذا الكلام بغض النظر عن من الذي قاله...آمين.

لكني شخصيا لم أتعلم شد الكرتان على البغال فحسب وإنما تعلمت وتمرست إلى حد ما في معاملة البغال بمرور السنين، مثلي مثل الكثير من الرفاق. ذلك كان من الواجبات الأساسية والمهمة في حياة الأنصار. ليس افتتانا بالبغال، فلا شيء فيها يغري أحد ما من الناحية الجمالية والروحية، وإنما لأن حياة الأنصار بدون بغال ستكون صعبة وعسيرة وشاقة إذ لم تصبح شبه مستحيلة. فالبغال في الجبال ضرورة لا مندوحة عنها. فإذا كان البعير سفينة الصحراء فإن البغل سفينة الجبال.

في مقر قاطع بهدينان كان الراحل ابو نادية مسؤولا عن حظيرة البغال. والرفيق ابو نادية للذين لا يعرفونه هو مهندس معماري جاء إلى كردستان من ايطاليا، تاركا زوجته الإيطالية، وابنته نادية التي كان يموت حبا فيها، وكلما جاء ذكرها ترقرقت الدموع في عينيه.

من ابو نادية تعلمت أن لكل بغل شخصيته المتفردة وأنه بحسب ذلك تتباين معاملة البغال من قبل سائسها. وليس من دليل افضل على هذه الحكمة غير بغل مقرنا المميز انذاك " حمه كوزي " *..

إذ كانت لحمه كوزي شخصية قوية مميزة ومتفردة بالفعل. فرغم صفاته العامة التي يتقاسمها من جميع البغال، إلا أن لا بغل آخر يشبه حمه كوزي في صفات أخرى. ولكي ادلل على كلامي أسوق لكم هذه الحادثة:

مرة وقد هبطنا من القمة إلى حضن الجبل في طريق عودتنا إلى المقر ولم يبق لنا سوى دقائق ونصل المقر وقد هد التعب المضني أجسادنا واثقل أرواحنا ودهمنا الانهاك إلى درجة تستعصي على الوصف، إذ بحمى كوزي يفلت زمامه من قيادة الرفيق الذي كان ماسكا به ( لا اتذكر الآن من كان ذلك الرفيق للاسف الشديد )، ويفر صاعدا إلى القمة ثانية بكل الأحمال التي ينوخ بها ظهره العتيد.

قد لا تصدقوني اذا قلت لكم انه كرر فعلته الدنيئة هذه ثلاث مرات في ذلك اليوم حتى جال في ذهن بعض رفاق المفرزة فكرة إعدامه جراء تماديه، أي حمه كوزي، وليس الرفيق طبعا، في استهتاره بنا وبتعبنا الجسيم !

بغل ومتفرد في عناده، وهل هناك أفضل من هذا الوصف، لكيفية الصعوبات التي كان من الممكن للرفاق أن يواجهونها أمام بغل يتمادى ويستقتل بسفالة شريرة أحيانا في عناده السخيف ! .

أما لماذا قام حمه كوزي بهذا السلوك المشين فلا أحد منا انذاك كان بإمكانه أن يسبر اغوار نفسية بغل مثل حمه كوزي. وينطبق نفس التحليل على السؤال لماذا عاود حمه كوزي  الصعود إلى القمة مرات ثلاث ولم يتجه إلى المقر آنذاك لأن ذلك كان أسهل له ولنا ؟ سيظل الأمر سر من أسرار البغال العميقة إلى أن تقوم الساعة.

كان الفقيد ابو نادية اذا تمادى حمه كوزي في عناده، أو تمادى أي بغل اخر في العناد وفي عدم اطاعة اوامره، يمسك البغل من أذنيه بشدة وأحكام،  يصرخ في البغل ويعنفه، وكأنه يعطي البغل درسا في فروض الطاعة والاذعان. حتى أن ابو نادية قام مرة بعض أحد البغال من أذنه بعنف، لأن ذلك البغل عانده عنادا مرا جعل ابو نادية يفقد أعصابه.

تبقى كلمة أخيرة لا بد أن اقولها في حق حمه كوزي. هذا البغل رافقنا أثناء عملية انسحابنا باتجاه الحدود التركية في بداية عملية الأنفال السيئة الصيت. كان محملا ببعض الاغطية والطعام ورشاشات الكلاشنيكوف وبعض العتاد، على ما أتذكر. حين افرغنا الحمل وتوجهنا لعبور الحدود التركية تركناه وحيدا هناك...

هل شعر حمه كوزي آنذاك بهزيمتنا وبمشاعر الإحباط والحزن الكثيفة التي انهمرت في أرواحنا مثل مطر غزير غير منقطع ؟!

وكيف انتهت حياته، هل قتله الجيش باعتباره عميلا لنا، عميلا قدم للعصاة خدمات جلى، رغم كل عناده...اعتبروه خائنا حق عليه الإعدام...

الحق أقول لكم... ما زلت اتذكر حمه كوزي بشيء من العطف والحنان...وما زال بي فضول لمعرفة ما آل إليه مصيره...

* كتب الرفيق ابو سعد إعلام، على ما أتذكر، قصة قصيرة تحمل اسم هذا البغل العتيد... حمه كوزي.. لربما ما زال الرفيق ابو سعد يحتفظ بها واذا كان الحال كذلك ادعوه من هذا المنبر أن يعيد نشرها أن رغب ذلك.