من الذاكــرة.. أيام صعبـة بإتجـاه الوطـن 4 / فائز الحيدر                  

الفصل الرابع

قاطع بهدينان

منظر عام لموقع قاطع بهدينان

بعـد ان تجلى لنا موقف الرفيق ( ابو رشدي ) قرر مرافقنا مواصلة السير، وبعد أكثر من ساعتين وصلنا مقـر قاطع بهدينان في ( كلي زيـوة ) بعد ظهـر يوم 26 / آب / 1983 بسلام وســط ترحيب قيـادة القاطع ومنهم مسؤول القاطع الرفيق توما توماس ( ابو جميل )(1) وأعضاء مكتب القاطع وكافة الأنصار .

بعـد الأنسحاب من ( وادي كوماته ) الواقع بالقرب من الحـدود التركية كان يتوجب على الحـزب وحركـة الأنصار مواصلة العمل لبناء قاعدة عسكرية بديلة جديدة صالحة لمختلف المهمات القتالية وفي موقع مناسب ومحصن بشكل جيد بعيدا" عن العدو وللتعويض عن الموقع السابق بشرط أن يكون مناسـبا" لتنفيـذ المهمات الأساسية للحركة الأنصارية وأبرزها وضع الخطـط العسكرية اليومية وفق الظروف المستجدة في المنطقـة، وتوفير السلاح والعتـاد والأدوية ومعالجـة الجرحى والمرضى، وضمـان وصول التموين اللازم للأنصار، اضافة للنشاط الإعلامي من إذاعة، طباعة، إصدار النشرات والبلاغات السياسية والعسكرية وهذه النشاطات تحتاج الى غرف وقاعات عديدة وهذا لا يتم إلا بجهود كل الأنصار، كما ويفترض استحداث دورات سياسية وعسكرية للتدريب على القتال واستعمال الأسلحة المختلفة الحديثـة لمن لم يدخـل دوارات تدريب عسكريـة، والوقايـة من الغارات السامة والمفاجئة التي قد يشنها العدو بالأسلحة الكيماوية، والانتباه والحذر من تسميم الأكل عن طريق الفواكه والمعلبات الجاهزة والأدوية التي يلجأ لها العدو من خلال عملاءه وله خبرة كبيرة في هذا المجال، أو إرسال عناصر لغرض التجسس والتوغل في صفوف الأنصار كملتحقين جدد او لتقديم شكاوي للقيـادة تسمح بدخول المقر وغيرهـا من أجل الحصول على المعلومات السرية، ومعرفة التحركات اليومية ونوعية السلاح الذي يحمله الأنصار ووضعهم الفكري والمعنوي ومحاولة القيام بالاغتيالات لتصفية العناصر النشطة أو تفجيرمخازن العتاد، وخلق بلبلة فكرية بين الأنصار، وإشاعة روح اليأس والتشاؤم عبر نشر الأشاعات، الاتصالات اليومية السريعة مع القوى الحليفة، وتقديم المساعدات اللازمة لسكان المنطقة من الفلاحين ووقع الأختيار بعد مشاورات مطولة مع الأحزاب الحليفة على أن يكون (كلي زيوة) موقعا" لقاطع بهدينان الجديد وكذلك بقية الأحزاب الحليفة .

يمر بالقرب من (كلي زيوة ) نهر الزاب الكبير وهو مصدر الماء للمنطقة وقراها وخاصة (قرية زيوة ) المجاورة للمقر، اضافة الى عدة عيون ماء عذبة على قمم الجبال المحيطة بالوادي وتم ايصال الماء منها الى بطن الوادي ولمسافة تجاوزت 500 متر بالأنابيب المطاطية ( الصوندات ) ليستعمله الأنصار في حياتهم اليومية، كلي زيوة محاط بجبال شامخة القمم ذات نتوءات صخرية شديدة الانحدار تتوسطها وديان سحيقة يعتقد انها مجرى لأنهار قديمة، تناثرت هنا وهناك اشجار البلوط والأعناب وأشجار الرمان والمزارع المتروكة التي هجرها اصحابها. وبين تلك الاودية وسفوح الجبال آثار لبيوت سويت بالارض ولجأ اهلها الى الحدود والقرى البعيدة بعد أن ذاقوا القتل والتنكيل صخور كبيرة متنائرة متساقطة من قمم الجبال تلاحظها في مناطق مختلفة من بطن الوادي . الحقول الزراعية قد جفت، لا أثر للحياة ولا ترى غير الخراب، نهر الزاب الكبير يبعد عدة مئات من الأمتار من موقع القاطع المقترح، ويقع عليه مباشرة مقر الفرع الأول للحزب الديمقراطي الكردستاني  (حدك).

ساعة وصولنا للقاطع في 28 آب / 1983

 إختير هذا الوادي الحصين كما كان يتصوره البعض من الذين خدموا في الجيش العراقي أو ذوي الخبرة في الحركة الأنصارية ليكون مكانـا" مناسـبا" لمقر القاطع الجديـد بعـد مشاورات مع الأحـزاب الكرديـة الصديقة، كان أختيار هذا الموقع قد تم قبل أسابيع فقط من وصولنا الى بهدينان وعلى اثر الأنسحاب من مقر القاطع السابق في وادي ( كلي كوماتة) ( (2 المجاور للحدود التركية بعد معارك طاحنة مع القوات التركية التي دخلت الأراضي العراقية في نهاية شهر مايس / آيار عام 1983 حسب الأتفاقية الأمنية مع النظام السابق والتي تجيز قوات البلدين الدخول الى البلد الآخر مسافة قد تصل الى خمسة عشر كيلومترا" لمطاردة البيشمركة في كلا البلدين حيث تصدى لها الأنصار وأستشهد فيها النصير الصابئي المندائي البطل ( ابو فكرت ) (3) في هذا الوادي الجديد ( زيوة ) تجاورت مقرات احزاب عدة منها مقر الفرع الأول للحزب الديمقراطي الكردستاني (حدك )الذي يقع على الزاب مباشرة أما الحزب الأشتراكي الكردستاني والحركة الديمقراطية الأشورية فهي مجاورة لمقر قاطع بهدينان لأنصار الحزب الشيوعي ولا تبعد عنه سوى بضع مئات من الأمتاروهناك تنسيق وتعاون عسكري وسياسي بين هذه الأحزاب عند الحاجة.                          

 كان بأنتظارنا بعد رحلتنا الطويلة بناء مقر قاطع بهدينان الجديد فهناك عمل شاق جديد ومرهق ومن نوع آخر فأنشاء مقر للقاطع يحتاج الى عمل وجهود كبيرة من جميع الرفاق ولعدة اشهر. الوقت الآن صيفا" ودرجة الحرارة عالية وجميع الأنصار وهم بالعشرات يفترشون الأرض المكشوفة على سفوح التلال بما يتوفر لديهم من أغطية وبطانيات قديمة للنوم ليلا"، ويقتسم معظم الأحيان كل نصيرين بطانية واحدة وأذا صادف أن قضي أحد الأنصار ليلته جنب النصير عمودي (4)  وهذا ما كان من حظ الواصلين الجدد فأنها ستكون ليلة تعيسة لا تحسد عليها بسبب الرفس والحركة التي يمتاز بها عمودي خلال نومه.

 ليس هناك أثر للبناء في هذا المقر وعلى جميع الأنصار الأستعداد لمباشرة البناء والأنتهاء منه قبل فصل الشتاء حيث يبدأ موسم الأمطار والثلوج وهنا بدأ الصراع مع الوقت.

لم تكن الحياة القاسية الجديده في البداية سهلة على الانصار الذين توافـدوا على مقرات الأنصار ومنهـا مقر قاطع بهدينان من دول عديدة بناء على دعوة الحزب بالألتحاق بفصائل الأنصار وتبينت لهم صعوبة الحياة الجديده عندما بدأوا يعيشونها فعلا"، وفاقت كل ما يحملونه من تصورات وأحلام عن هذه الحياة، ووضعت على الرف صـور النضال التي انطبعت في اذهانهم من خـلال الكتب التي طالعوهـا عن حرب العصابـات والكفاح المسلح وسـيرة جيفارا والجنرال جياب وهوشي منه وماو تسي تونغ وغيرهم ، فعليهـم ان يتعلموا الآن، كيفية ملازمة السلاح في كل وقت، الحذر والأستعداد في أي لحظة تحسـبا" للطوارئ، أعمال يومية يجب القيام بها وترجع الأنصار لعشرات السنين في قدمها، كيف يعجنون العجين ويخبزون الخبـز بأيديهم، كيف يطبخـون وجبات الأكل صيفا" وشتاء" وفي مطابخ مكشوفة وتحت الأمطار والثلوج وبطرق بدائية، كيف يتعاملون مع البغـال ويحّملون مـواد التموين، كيف تتعود اكفهـم الملساء الرقيقة التي لا تعرف غير الورقة والقلم على ان لا تجرح وتتألم وأن تخشن وهي تقطع سيقان الأشجار ( بالتورداس ) ( 5 )، وتجمع الاغصان والجذوع اليابسة من أشجار الغابات من سفوح الجبال البعيدة، وتنقل الاحجار الكبيرة الملائمة للبناء وجذوع ( السبيندارات (6) العملاقة الطويلة من أمكنة بعيدة لتبني وتسقف بها قاعات وغرف اضافية لنوم الأنصار الجدد الذي يزداد عددهم يوما" بعد آخر، كان تصور الكثيـر منهم في البـدايه ان هـذه الحياة الصعبـة والقاسـية لن تطول كثيـرا"، فسرعان ما سينهار النظام ونعود الى بيوتنا مرفوعي الرأس كأبطال كما سمعه اعضاء الحزب من قيادته حينها وتتحقق الاهداف والأماني .

خطط القاطع الجديد لكي يحتوى على غرف وقاعات عديدة تبنى من الحجر والطين وتسقف بسيقان الأشجار موزعة بشكل متناثر ومتقارب على امتداد الأرض المنبسطة المحاطة بالجبال الشاهقة من كافة جهاتها، منها غرفتين متجاورتين لا تتجاوز مساحة كل منها ثلاثـة امتار مربعـة لمكتب مقر القاطع وعدد من القاعـات المخصصة للنوم منها قاعة لفصيل الإدارة ويقع في مقدمة القاطع وملحق بها مطبخ وحمام وأخرى لفصيل الحماية ومطبخ وقاعة كبيرة للطبابة اطلق عليها المستشفى وأخرى للأعـلام والطباعـة وغرفـة خاصة بنوم النصيرات ومخـزن لمواد التمـوين بالأضافـة إلى السـجن وإسـطبلات للحيوانات وغرفـة صغيرة لجهـاز اللاسلكي ومشجب السـلاح والحمام كما وبنيت قاعـة لفصيل الأسناد حيث يحوي سلاح الدوشكا والأسـلحة المضادة وهو على مرتفع مجاور وعلى مسافة عشرة دقائق سيرا" من المقر وبنيت فيما بعد قاعة لعيادة طب الأسنان للرفيق ( ابو بدر ) .

نحن الأن في أواسط شهر ايلول والبناء الواسع المخطط له يحتاج الى جهود مضنية من كافة الأنصار، عدد الأنصار لا يتناسب مع البناء المقترح وعلى الأنصار بذل جهود استثنائية لأنجاز مهمة البناء قبل حلول موسم الشتاء حيث الأمطار والثلوج.

بناء كل قاعة يحتاج الى أطنان من الصخور والطين وسيقان أشجارالقوغ الطويلة (السبندارة ) للتسقيف التي عادة ما تقطع من أماكن أو قرى تبعد عدة كيلومترت عن مقر القاطع، تنظف من كـل الفروع الجانبية ب( البفر )(7) وترمى في نهر الزاب لكي تسير مع التيار وبمتابعة الأنصار وهذا يحتاج الى ساعات طويلة وقد تأخذ يوما" كاملا" وحتى مدخـل كلي زيـوة حيث القاطع وعندئـذ تبـدأ مهمة عشرات الأنصار لحملهـا على الأكتاف لأيصالهـا الى موقع البنـاء، انها عملية شـاقة ومرهقـة خاصة وان طريق السـير المؤدي الى مقـر القاطع ضيق وغير سهل وتكثر فيه الصخور المتناثرة على ارض الوادي مما يسبب صعوبة كبيرة بالسير، اما عملية قلع وتوفير الصخور للبناء فهذه مهمة شاقة اصلا" رغم توفره في الوادي ولكن علينا أخراجة من الأرض بواسـطة ( القزمات ) وبحذر شـديد فمن الممكن ان يكـون تحت كل حجرة افعى سامة او عشرات العقارب الصفراء الكبيرة السامة المخيفة أيضا" لكون ان الوادي لم تطأه أرجـل البشر من عشرات السنين  .

كانت عملية قلع الصخور وايصالها الى موقع العمل مرهقة للجميع مسببة آلام في الظهر والرقبة خاصة بالنسبة للنصيرات وكبار السن وسط العديد من الثعابين المختلفة الألوان والعقارب التي نقتلها يوميا" اثناء عملية القلع هذه واخذنا نتغزل بالوانها الجميلة وطولها وعندما تتجمع كمية صخور نعتقد انها كافية لبناء قاعة مع كمية مناسبة من الطين والتبن يبدأ البناء من الصباح وحتى المساء أحيانا" تتخللها فترة الغذاء ولمدة ساعة واحدة فقط. وهكذا بدأت عملية البناء حسب أهمية كل قاعة وحجمها، استمرت عملية البناء عدة اشهر، كانت بعض القاعات الكبيرة تحتاج الى خبرة القرويين في عملية البناء وعادة ما يتم دعوة ذوي الخبرة من عمال البناء القرويين لتنفيذ المهمة وفق اجور متفق عليها. ويجب ان لا ننسى دور النصيرات في بناء الموقع الجديد، لقد ساهمت النصيرات بكافة الأعمال الشاقة أسوة بالأنصار الأخرين رغم الفارق في التكوين البايولوجي لجسم المرأة، أن الحياة القاسية وقلع الأحجار وقطع الأشجار ونقلها من اماكن بعيدة والواجبات اليومية المختلفة أثرت بالتـأكيد سلبا" على صحة غالبية النصيرات ولم تتخذ أي أجراءات من قبل الحزب أو قيادة الأنصار للتخفيف عنهن أو أعفائهن من بعض المسؤوليات الصعبة التي لا تتناسب مع قابلياتهن البدنية ، والأن وبعد ما يقارب اربع وعشرين عاما" او أكثر على الحدث نرى ان غالبية النصيرات لديهن مشاكل صحية من تلك الفترة وأثرت أنجاب الكثير منهن ناهيك عن ما يعانيه الأنصار انفسهم وهذه تضحية بحد ذاتها .

بعد الأنتهاء من البناء يبدأ موسم جمع الأخشاب للتدفئة وتخزينها لفصل الشتاء. وهذه العملية صعبة ومرهقة اذ تحتاج الى قطع الاشجار بمناشير يدوية محلية كبيرة ومن مسافات بعيدة وعلى سفوح الجبال المحيطة بالمقر ويمنع منعا" باتا" قطع الأشجار من اماكن قريبة من المقر لأسباب أمنية لحماية المقر ومن ثم ينقل الأنصار الأشجار المقطوعة على أكتافهم لمسافات تزيد على نصف كيلومتر احيانا" ومن أعالي الجبال، ثم تبدأ عملية (التحطيب) وهي قطع السيقان الى قطع صغيرة لنتمكن من ادخالها في المدفأة المعدنية محلية الصنع، وهي عبارة عن صفائح معدنية تربط مع بعضها بشكل اسطواني قطره حوالي نصف متر يتصل بها انبوب يمتد الى سقف القاعة لخروج الدخان الى الاعلى وهي وسيلة التدفئة الرئيسية في كردستان، وعملية قطع الأخشاب هذه عملية خطرة لمن لا يجيدها وشاقة ومملة وتستنزف جهدا" عضليا" كبيرا" وتستغرق اشهر الخريف لتأمين الوقود للشتاء .

ا                                                                                                                        الهوامش ـــــــــــــــ

1 ـ أبو جميل ... الرفيق توما توماس عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي مسؤول القاطع العسكري وهو ضابط قديم في جيش الليفي.

2 ـ (كلي كوماتة) وادي يمر فيه نهر صغير يفصل العراق عن تركيا على مجرى الخابور وهي منطقة يحميها جبل عال ، اتخذها البيشمركة مقرا" لهم.

3 ـ ابو فكرت هو الشهيد المندائي رحيم كوكو العيداني استشهد بتاريخ 25 / 5 / 1983. يذكر عنه رفاقه أنه كان بطل بحق في المعارك وصيد الحيوانات البرية ، شخصية مرحة وذو صوت شجي.

4 ـ عمودي.... ( سلام العطار ) شاب التحق بالأنصار ولم يكن قد بلغ سن الرشد وهو من أبويين شيوعيين من عائلة بحر العلوم المعروفة من كربلاء، وعمودي لم يكن شيوعي وانما صديق للحزب وحصل على عضوية الحزب فيما بعد وفي الأنصار وحين حصل على العضوية اعترف مازحا انه اضطر إلى ( الكذب الأبيض ) بتكبير عمره بسبب حماسه للحصول على عضوية الحزب ويسمى عمودي أيضا وللمزحة بالطفل المعجزة وترتبط باسمه مجموعة كبيرة من المفارقات والمزح التي كانت تحصل أو يقوم هو بها تلك الأيام والتي كانت غالبا" ما تشيع جو طيب من المرح والسرور .
5 ـ التورداس ... آلة أشبه بالمجل حادة كالسكين ولكنها مستقية ومعقوفة في نهايتها بزاوية قائمة تستخدم لتنظيف سيقان الأشجار المقطوعة من الأغصان الصغيرة.
6 ـ السبيندارة..... هي شجرة القوغ ومعناها في اللغه الكردية الشجره البيضاء تنبت عند منابع الماء وتكون مستقيمه وتستخدم للبناء .
7 ـ البفر (الطبر) ... فأس كبير يستعمله القروين في تقطيع سيقان الأشجار لقطع صغيرة لغرض التدفئة شتاء".
8 ـ الصورة العليا لكلي زيوة في بهدينان حيث يقع مقر قاطع أنصار بهدينان

9 ـ الصورة الثانية الساعات الأولى لوصول ابو سوزان وام سوزان قاطع بهدينان في 28 / آب / 1983