أوراق أنصارية من الزمن الصعب / مذكرات الفقيد النصير سلام الحيدر 2 (د. أبو تانيـا)

مذكرات الفقيد النصير سلام الحيدر ( د. أبو تانيـا )

فصيل الأعلام المركزي

الفصل الثاني

قاعـدة بشت آشان

وصلنــا قاعدة ( بشت آشان ) في بدايـة تشريـن الأول من عام / 1982 ، أسغرقت رحلتنا من مدينة القامشلي إليها 45 يوما"، تلك الرحلة الشاقة التي لا أتصور أن ينساها أي رفيق أبدا" لقساوة أيامها وهي تجـربة ومقيـاس لـقـوة التحمـل والصبـر لأي رفيــق جديد .

كانت بشت آشان في حركـة دائمة ومسـتمرة يوميا" كخليـة نحل، رفـاق يبنون قاعـات جــديدة وحيــوانات تنقل مواد تموينيـة لفصل الشتاء القريب ومقرات وفصائل في طور التكوين، في تلك الأيام كانت مقرات المكتب السياسي والأعلام والحماية قد أنسحبت من منطقة ( ناوزنك ) على الحــدود التركيــة لمخاوف من تقدم القوات التركية أثر أتفاقيات سرية  وقعتها تركـيا مع نظام صدام حسين، أما الرفــاق الذين تراكمــت لديـهم خبـرة في العمـل الأنصاري أعتبروا المنطقة غير أمنة وخطرة من حيث موقعها الجغرافي المحصور بين التلال أضافة الى إن طرق الأنسحاب في الحالات الطارئة محدودة وغير واضحة المعالم وقد صدقت توقعاتهم وأثبتت صحتها معارك بشت آشان فيما بعد .

كانت بشت آشان منطقة ضيقة محاطة بمرتفعات من كل جوانبها وتحاذي الحدود الأيرانية من خلال أحد أعلى جبالها ( جبل قنديل ) وهو الطريق الوحيد للأنسحاب في حالة تقدم قوات حكومية معادية

بدأ الرفـاق بناء مواقع لفصـائل وحضائر الدوشكـا ومقرات حمايـة المكتب السيــاسي والأعلام المركزي في جو بارد وممطر دوما" وفي تلك الفترة وصلنا أعداد جدد من الرفــاق وتألمنا كثيرا" لسماعنا أستشهـاد كوكبة من الأنصار كانوا يعيشون معنا في القامشلي أثناء محاولتهم للعبور وهم (نمير عبد الجبار، بهاء الأسدي، سلمان جبو) في 21 / أيلول / 1982 .

معظم الرفاق الذين وصلوا لم تتح لهم فرصة أنهاء الدورات العسكرية في لبنان أو اليمن الديمقراطية ولم تمسك أياديهم السلاح من قبل وكان قسـم منهم قد أنهى تعليمـه الجامعي في دول أوربا الشرقية وجاءوا على عجل تنفيذا" لقرار الحزب كما ذكرت سابقا" لتوقعات الحـزب بحصول تطورات على الجبهة وأحتلال أيران لأراضي عراقية، وكان الرفيـق ( أبو عامل ) قد وعـد بفتح دورات عسكـرية لتعلم السلاح في فصل الصيف.

ولكون المنطقة جـديـدة ولم يجري بعد تهيئة المواقع وقدوم أعداد كبيرة من الرفاق كان يمكن ملاحظة عدم أنتظام الحركة وقلة اليقظة والإنضباط والترهل فكان التزاحم حول مواعيد الطعام والانتظار لوقت طويل لأخذ الأواعي الفارغة لنأخذ حصتنا من الأكل، ولم ينتبه الرفــاق لتلك الوضعية غير الأمنة لولا تلك الحادثة البسيطة، لقد كان يجلس بيننا أحد الأشخاص ويتناول طعامه مع الرفاق في المكتب السياسي وكأنه أحدهم، ومساءا" فقط أثيرت حــوله التسـاؤلات خاصة وأنه غير مسلح وبعـد التحقيق تبين أنه أحد القرويين الذين صودرت سيارته مؤقتا" لحاجة رفاقنا أليها لنقل التموين وخاصة والشتاء على الأبواب في أحد المواقع المتقدمة وقد جاء لقيادة الحزب لتقديم شكوى، فماذا حصل لو كان من المخابرات ولديه سلاح وهو على بعد أمتار من الرفاق أعضاء المكتب السياسي؟ وكيف علم بتواجــد قيــادة الحزب في هذا المكان ؟ وكيف سمح له المرور من قبل فصائلنا المتقدمة؟ هذه الحادثة وهذه التساؤلات غيرت وضع القاعدة وأعتبر جرس أنذار لكل الرفاق فرفعت من همة الرفاق ويقظتهم وأجريت بعض الخطوات لتلافي أية أشكالات في المسـتقبل فبدأت عمليات سريعة لنقل الرفاق ونصب خيام للسكن المؤقت وحـددت مواقع المظادات الجوية وبوشـر بالبناء السـريع وعززت الفصائل المتقدمة وأنشأت نقاط سيطرة.  

تذكرت لاحقا" مع رفاقي تلك الليلة الأولى التي نمنا فيها في الخيمة وأرادت الطبيعة أختبار مدى تحملنا فهطلت أمطار غزيرة أغرقت الخيمة والمكان كله وتبللت البطانيات ولا أعرف كيف حصــل الرفيق ( أبو حسن حبيب ألبي ) على بعض الأغصان الجافـة فأوقد النار وجلسنا حولها حتى الصباح، عطف الرفاق علينا وحن قلوب البعض فأرسلونا مؤقتا" الى أحد الفصائل المتقدمة حيث خرجت منه مفرزة أستطلاعية لعدة أيام فأخذنا أماكنهم لحين عودتهم .

بعـد أيام قليلـة باشــرنا ببنــاء مقـر لسرية الدفاع الجـوي والذي كـان آمرها الرفيق (ملازم قصي) ومســتشارها السيــاسي الرفيق ( أبو آيار ) والذين جمعتني معهم علاقـة رفاقية حميمة طيلة سنوات تواجدي في كردستان، كانت عملية البناء شاقة لم نألفها في البداية فنقل الحجر جرى من مناطق بعيدة جدا" وكنا نحاول أيجاد طرق مختلفة لنقلها سواء في أكياس أوعربات خشب أو ربط جذوع

الأشجار بحبال وغيرها كما أن خميرة الطيــن تتطلب جهــدا" وخبــرة خاصة وقد أبرع فيها الشهيــد عبد الحسن لازم مطشر ( أبو الوسن ) الذي كان يتحفنا بصوته الشجي وأغانيه الريفية، ثم نقل الأخشاب وجذوع الأشجار الكبيرة التي يتطلب نقلهــا من مسافة الى أكثر من أربعين دقيقة، كنا نسير حاملين السبندارة الطويلة وهي تترنح بين أيدينــا ويليها تغطيــة السقف بالأغصان والأوراق ومن ثم طبقة كثيفة من التراب، كان البناء شاقــا" ولكن المعنويات عالية وروح النكتة وأغاني الرفيق الشهيد ( أبو الوسن ) الريفية ونكات الرفيق (أبو حقي) العريف الذي جاء من النجف، عاملا" في أرتفاع البناء شيئا" فشيئا".

أنهينا البناء في غضون عشرين يوما" وأصبحت غرفــه الثلاث مقرا" لمكتب الســرية ولرفــاق الفصـيل الذي كان آمره الرفيـق (أبو انصار) وللمـزح لقبه البعض بالمرافق الأقدم لأنه كان مرافقا" للرفيق ( فخري كريم ) عندما كان مسوؤلا" لمنظمة الحزب في لبنان.

النصير سلام مع رفاقه خلال الاستراحة

تم نقلي الى فصيل آخر بالقرب من مقر الأقليم ( أقليم كردستان ) وكان مقر الفصيل بناء قديم وهو عبارة عن أصـطبل للخيول قمنا مع الرفاق جميعا" بتنظيفـه وترتيبه للمنام ولكن كنا نعاني من عدم وجــود مطبخ أو حمام وكان آمر الفصيل الرفيـق (خالد عرب) الذي ربطتني به علاقات حميمة لسنوات عديدة وكذلك مع معظم الرفاق في الفصيل والذين أستشهد عددا" منهم في معركة بشت آشان لاحقا"، كان رفاقنا يتناوبون مع رفاق الأقليم على الدوشكا المشرفة على مقر المكتب السياسي يوميا" وقد نقل الموقع الى عدة أماكن آخرى فيما بعد، أضافة لفصيلنا كان هناك فصيل متقدم وأحدى حضائره هي حضيرة الدوشكا التي تشرف على مقر الأعلام المركزي، كان آمر الفصيل الرفيق الشهيد صامد الزنبوري ( ابو خلود )، لقد كان رفيقا" شجاعا" تربطني معه علاقة متينة منذ أن كان يدرس في كلية الزراعة في موسكو وساهم مع رفاق الطريق في نقل السلاح من القامشلي الى بهدينان وقد أستشهد فيما بعد في معركة بشت آشان 1983

 كانت مشكلتنا في الفصيل عدم توفر عين للماء بجواره وكان الرفاق ينقلون الماء أليه من مواقع آخرى بواسطة بغل كبير السن مريض يسير ببطئ شديد وكانت رحلة نقل الماء تستغرق وقتا" طويلا" فأطلق الرفاق عليه للمزح والنكتة ( فصيل الكويت) وأخذت هذه التسمية تلازم الفصيل فترة طويلة. وهذا يذكرني بفصيل الأعلام المركزي الذي سماه الرفاق ( فصيل بدربك حبيّب ) وجاءت هذه التسمية شتاء" وأثناء البرد القارص والرفاق يدفـئون أنفسـهم تحت البطانيـات فيحـاولون جهـد الأمكان الأحتفاظ بالدفئ بعدم الخروج من تحت بطانياتهم فيكلفون أي رفيـق ينهي حراسـته الليليــة ويدخل  القاعـــة بقولهــم رفيق بدربك حبيّب أعمل كذا، وكانت أكثر الحاجات هي توليع السكائر من المدفئة .

كان فصيلنا من أكثر فصائل بشت آشان بؤسا" فمقرنا كان زريبة للحيوانات، مظلم بدون نافذة ما عدا فتحة صغيرة بحدود 30 سم مربع في أعلى البناء، لا يوجد مطبخ وكنا نطبخ في العراء خارج المقر فكانت اللعنة نفسها تحل على الرفيق الخفر شتاء"، أن عدم وجود حمام زاد من بؤس الفصيل فكنا نذهب دوريا" الى مقرات الفصائل الأخرى لغرض الأستحمام دوريا"، وأما الخبز فكنا ننتظر أن ينهي أحد الفصائل عمل الخبز ليأتي دورنا وكانت عملية شاقة تستمر حتى المساء نعود بعدها ولمسافة طويلة حاملين أكياس الخبز وأتذكر أحد المرات شاهدنا الرفيق ( أبو سرباز ) ونحن عائدين مساء" حاملين أكياس الخبز وبعد الأستفسار عن ذلك تأثر كثيرا" وبجهوده حصلنا على برميل وكان أفضل هدية حصل عليها الفصيل فأستطعنا أن نبني فرنا" زال عنا ذلك العناء الذي لازمنا طيلة أشهر عدة.

أما عملية قطع الأخشاب فكانت من أعقد المشاكل التي واجهتنا فكنا نضطر تسلق مرتفعات عالية نبحث عن أشجار يمكن قطعها وتطلب ذلك جهدا" ووقتا" طويلا" وأتذكر في أحدى المرات خاطب الرفيـق الشهيـد ( توفيق ) آمر الفصيل الرفيق ( خالد عرب ) رفيق ليش ما جبنا الغداء ويانه علما" أننا خرجنا لقطع الأخشاب بعد الفطور مباشرة فأجابه ( صوج أبو آسوس ) والرفيق ( أبو آسوس ) كان سكرتير للاقليم وهو معروف لدى الرفاق بالحدة والحزم حيث كان لا يتردد أن يوجه الأهانة الى رفيق أوعدة رفاق أرضاءا" لقروي كردي ويردد دائما" بأن العرب لا يستطيعون التمييز بين شجرة مثمرة وغير مثمرة ويقطعون الأشجار بدون وجع كلب حيث في أحدى المرات قطعنا شجرة ميتة جافة جدا" ومتهرئة ولكن أحد القرويين أدعى على انها شجرة كمثرى مثمرة وتعود اليه وقدم شكوى للرفيق ( أبو آسوس ) الذي أنّب بدوره الرفاق وعوض القروي ما يعادل ما تنتجه الشجرة من الكمثرى لمدة ثلاثين عاما".

يتبع في الفصل الثالث