محطات في حياة الشهيد ستار خضير، "1" / فائز الحيدر

1969 ــ 2019

محطات في حياة الشهيد

الجزء الأول

ولد الشهيد ستار خضير صكًر الحيدر من عائلة مناضلة معروفة عام 1929 في ناحية الكحلاء (مسيعيدة) التابعة لمحافظة ميسان، تلك الناحية الفقيرة المسالمة الغافية عند زرقة الهور وصفاءه، وكانت عائلته الكبيرة آل الحيدر قد اعتنقت الافكار اليسارية منذ فترة مبكرة من تأسيس الحركة الوطنية العراقية، كما أنخرط عدد منهم في صفوف الحزب الشيوعي العراقي ومنذ السنوات الأولى لتأسيسه عام 1934، حيث كان أبن عمته المناضل الراحل (خيري يوسف الحيدر) مسؤول التنظيمات الفلاحية للحزب في محافظة ميسان، بينما كان أخوه الأكبر ( جبار خضير الحيدر )عضوا" في التنظيم العسكري وأحد الضباط الاحرار الذين شاركوا في انتصار ثورة الرابع عشر من تموز الخالدة.... عمل والد ستار في مهنة الصياغة والتي كانت مهنة الشقاء والكدح والتعب اليومي في ذلك الوقت، لبساطة الأدوات المستعملة في هذه المهنة الشاقة... كانت عائلة خضير صكًر ميسورة الحال رغم الكدح اليومي، وكان بيتهم ملتقى سمر أكثر المندائيين ليلا" لشرب القهوة العربية التي برعوا وتفننوا في صنعها ولتبادل الأحاديث اليومية عن آخر الأخبار السياسية وأخبار السوق.

دخل الشهيد ستار مدرسة الكحلاء الابتدائية عام 1937، ثم توفيت والدته وهو لم يزل صبيا" لم يتجاوز عمره بعد التسعة سنوات، وقد ترك هذا الحدث حزنا" وفراغا" كبيرا" في حياته رغم أن زوجة أبيه الثانية ( ناجية فندي ) قد غدت أما" رؤوما" له وكانت بحق القلب الكبير الذي عوضه حنان والدته الراحلة، فلجأ الى والده يساعده في عمله اليومي الشاق، حيث بدأ منذ ذلك الوقت يشعر بمسؤوليته أتجاه البيت والعائلة.

بدت يقظة وفطنة ستار خضير الحيدر على التباين الاجتماعي في العراق وأدراكه معنى الصراع الطبقي منذ فترة مبكرة من حياته، وبعد أنهائه المرحلة الابتدائية عام  1944 وكلما وجد نفسه في دكان والده يساعده في مهنة التعب والنار والمنفاخ والطرق على السندان، كي تزين بعد ذلك ما تنتجه أياديهم الحلي الذهبية صدور وأيادي الفتيات الجميلات الثريات.

 كان الشهيد دمث الأخلاق، لطيف المعشر، حاضر البديهية، صديق الصغار قبل الكبار، محبوبا" من قبل الجميع دون استثناء، الاساءة وايذاء الآخرين ليس لهما وجود في تصرفاته وطريقة كلامه، عندما يعاشره أحد يدرك أنه نذر حياته للشعب ولأفكاره ومبادئه التي كان يتطلع من خلالها لبناء مجتمع عادل حر... لم يضع مصالحه الشخصية في حسابات حياته، كان مترفعاً عن الصغائر ولا هدف له إلا خدمة الناس والحزب.

ودّع الشهيد الأهل والأحبة مغادرا" الكحلاء لإكمال دراسته في متوسطة العمارة عام 1945.. وفي مدينة العمارة الواقعة تحت سيطرة الأقطاع في ذلك الوقت كان ستار يحرّض الفلاحين المظلومين البائسين على رفض الانصياع لأوامر الشيخ الاقطاعي ( محمد العريبي ) الذي كان مسيطرا" على معظم أراضي محافظة ميسان وما تنتجه من خيرات.. وخلال دراسته تعرف على الكثير من الطلبة القادمين الى مركز المحافظة من الأقضية المجاورة، مما جعله يطالب وزارة المعارف بفتح قسم داخلي لسكنى الطلبة من العوائل الكادحة القادمين من خارج المركز، ثم أصبح مسؤولا" عن القسم بترشيح من زملائه.. وخلال اقامته في القسم التقى بعدد من الطلبة المثقفين حملة الفكر الافكار الشيوعية، فأزداد حبا" ورغبةً في التعرف على هذه الأفكار والسير في دربها.

وفي مكان آخر من القسم الداخلي، كانت أعين المجرم ( ناظم كًزار ) زميل الدراسة حينها ومدير الأمن العام في عهد البعث عند وصوله للسلطة عام  1968، ترصده بعين الحقد تحت ستار الابتسامة الكاذبة، فقد أحتسى هذا المجرم حليب الوضاعة والقتل منذ نعومة أظافره مفكرا" بالانتقام منه ورفاقه يوما". وفي نفس الوقت في العمارة أيضا" تعرف ستار وزملائه على الشخصية الوطنية المناضلة ( الشيخ حسين الساعدي ) الذي كان صاحب دكان صغير لبيع السكائر والتبوغ في سوق مدينة العمارة.. أخذ هذا الشيخ يحدثهم عن هموم الشعب ومآسي العمال الكادحين والفلاحين المستضعفين فوجد فيهم تربة خصبة لتغذيتهم بالأفكار الوطنية.

كان ستار في الصف الرابع من المرحلة الثانوية عندما حدثت وثبة كانون 1948 وعمّت المظاهرات مدينة العمارة،  فكان أول عمل قام به ستار وباقي الشباب المناضلين هو نزولهم الى الشارع الرئيسي في المدينة والاشتراك مع ابناء شعبهم في تظاهرهم هاتفين للوثبة مطالبين بإلغاء معاهدة (بورتسموث) الجائرة وأسقاط الحكومة العميلة، وكان الشهيد ستار خضير أول من هتف في تلك المظاهرة، حتى هاجمتهم عناصر الشرطة بأطلاق الرصاص عليهم فنجا ستار ورفاقه بينما أستشهد زميله الثائر الى جانبه. فيما بعد سافر مع رفاقه الآخرين الى ناحية الكحلاء بعد أغلاق مدرستهم وقسمهم الداخلي.

بعد عودته ورفاقه الى ناحية الكحلاء أقاموا مجلس الفاتحة على أرواح شهداء الوثبة في مسجد الناحية مستقبلين المعزين من أبناء جميع الطوائف التي تسكن مدينة العمارة، من صابئة ومسلمين ومسيحيين ويهود.. وكانت هذه بحق صورة رائعة للتآلف والتأخي العظيم بين جميع مكونات المجتمع العراقي وكل هذا يعود بالأساس للأفكار النبيلة التي روجوا لها في الناحية ليقطفوا ثمارها في هذا الوقت.

بعد أن تخرّج الشهيد ستار من الثانوية  بين عامي عام 1949 و1950 عيّن معلما" في قرى ناحية الكحلاء لمدة سنة وكانت هذه المدة كافية لإقامة علاقات وثيقة بينه  وبين الفلاحين روج من خلالها أفكاره الشيوعية بينهم.. نقل بعدها الى مدينة بغداد حيث عيّن هناك معلماً في مدرسة (الحاجب) وهي أحدى مدارس منطقة أبو غريب الابتدائية في مطلع عام 1951، لكنه عاد بعد فترة قصيرة الى مدينة العمارة ليلتحق بمعهد المعلمين عام 1952 ويعين معلماً ثابتاً لكنه فصل من الوظيفة في نهاية العام نفسه بسبب انتمائه السياسي ومشاركته في انتفاضة تشرين عام 1952، مما أضطره للعودة الى ناحية الكحلاء ليمارس نشاطه الحزبي من جديد مع جموع الفلاحين الكادحين موزعا" عليهم منشورات الحزب الشيوعي وما كانت تحمله من أفكار تحررية وتوعوية لهم من خلال دكان البقالة البسيط الذي فتحه، وهناك كان لقائه الأول مع المناضل الثوري الفلاحي صاحب ملا خصاف والذي أستشهد فيما بعد على يد الأقطاع بعد انتصار ثورة 14 تموز  1958 حقداً على نضاله المرير الساعي لتطبيق قانون الاصلاح الزراعي.

وخلال أيام انتفاضة تشرين عام 1952 وصلته من بغداد عن طريق أحد الأقارب رزمة من منشورات الحزب الشيوعي من أجل توزيعها على أهالي ناحية الكحلاء، ونتيجة لوشاية أحدهم ويدعى ( جودي أبراهيم ) الذي سلم احد المنشورات الى مفوض الشرطة المجرم علي مجو، فألقي القبض عليه وجميع أخوته وأقاربه من قبل رجال الشرطة ليرسلوا مخفورين الى دائرة أمن العمارة بتهمة توزيع المنشورات الشيوعية، حيث تعرض الجميع الى الضرب والاهانة .. عندها قال ستار أمام المحقق (أنا وحدي هذه موزع المنشورات ولا شأن لأهلي بها).

أحيل ستار الى المحكمة ليحكم عليه بالحبس لمدة ستة أشهر. وبعد أن أكمل محكوميته خرج من السجن أكثر شجاعة صارخا" أمام الجميع .... ( الأن ازدهرت الشيوعية في أعماقي)، ليعود بعدها الى ناحية الكحلاء ويستأنف نشاطه الحزبي مع رفاقه بين صفوف الفلاحين.

في عام 1954 جاءت سيارة مسلحة من العمارة لألقاء القبض على ستار بسبب نشاطه الحزبي، فحاول الهرب الى قلعة صالح مشيا" على الأقدام إلا أن الشرطة تابعته على الطريق المؤدي الى هناك فألقت القبض عليه وأعادته الى الكحلاء بعد أن أعتدت عليه بالضرب أمام والده الذي كان يكن له الحب ويفتخر بنضاله وبطولته أمام أهالي الناحية، فما كان منه ألا أن أنقض على الشرطة ليضربهم بعقال رأسه وساهم أخيه الأصغر ( باسم ) بقذف رجال الشرطة بالحجارة، فأصاب شرطيين منهم سالت الدماء من رؤوسهم.. فألقي القبض على الجميع وأرسلوا الى المحافظة، وهناك تم التحقيق مع ستار باعتباره عضوا" في الحزب الشيوعي العراقي، وعلى والده وأخيه لاعتدائهم على الشرطة أثناء تأدية واجبهم.. وبعد محاولات ووساطات ودفع مبالغ كرشوة تنازل على أثرها أفراد الشرطة عن حقهم، فأطلق سراح والده خضير صكًر وأخيه باسم، بينما حكم على ستار بالسجن لمدة ثلاث سنوات على أن يبقى بعدها سنة كاملة تحت المراقبة، وبعد صدور الحكم سفر فوراً الى سجن بعقوبة ليقضي محكوميته هناك. وخلال تلك الفترة أخذت للعائلة تتعرض الى مضايقات عديدة من قبل رجال الشرطة والأمن والعناصر الرجعية المرتبطة بالأقطاع، مما أدى بها وبقية عائلة الحيدر الى الهجرة القسرية من ناحية الكحلاء عام 1955 الى مدينة بغداد ومدن أخرى من العراق.

يتبع في الجزء الثاني