محطات في حياة الشهيد ستار خضير الحيدر "2" / فائز الحيدر

1969 ــ 2019

الجزء الثاني

أنهى الشهيد ستار محكوميته وخرج عام 1956 فسفرّ فورا" الى مدينة بدرة وجصان قرب الكوت في محافظة واسط والمحاذية للحدود الايرانية، حيث يقضى المئات من الشيوعيين هناك فترات مختلفة من الأبعاد القسري والمراقبة بسبب نشاطهم السياسي...  وبعد اكمال مدة مراقبته في عام 1957 وقبل ثورة 14 تموز بأشهر قليلة التحق بعائلته في مدينة بغداد مواصلا" نضاله العنيد ضد الظلم والتعسف. وأستمر في مقارعة النظام الملكي البائد حتى بعد انتصار ثورة الرابع عشر من تموز، حيث عمل في تنظيمات مختلفة منها التنظيم العسكري للحزب مثبتا" قدرة تنظيمية كبيرة ونشاط متميز.

ولظروفه المالية الصعبة حصل على عمل بسيط في حسابات أحد معامل المواد الانشائية في بغداد عن طريق أحد معارفه فأشتغل هناك فترة قصيرة من الزمن، وبحكم ثقافته الواسعة وخبرته النضالية مع السجناء والمراقبين السياسيين في سجن بعقوبة ومدينة بدرة أصبح من قيادات الصف الاول في الحزب، فأنيطت به مهات صعبة وذات مسؤوليات كبيرة فنجح فيها جميعاً نجاحاً" لافتا".. وبعد ثورة 14 تموز عمل موظفا" في مصرف الرافدين في بغداد لعدة أشهر قبل أن يستقيل بتوجيه من الحزب كي يتفرغ للعمل النضالي الحزبي.

رغم أن الشهيد ستار كان قد نذر حياته لوطنه والمبدأ الذي آمن به، الا أنه كان يحلم أيضا" بالاستقرار وبناء بيت يستظل بسقفه وأسرة يشعر بدفئها.. لذلك فقد تزوج عام 1961 من أبنة عمه (سميعة حيدر الحيدر) التي غدت رفيقة العمر والنضال.. وعند زواجه أكمل كافة مراسيم الزواج وطبق كافة الاجراءات الدينية المندائية، مما دفع الأخرين من قصّار النظر وسطحيي الفكر  للتندر عليه، لكنه دافع بشدة عن تمسكه بتقاليد دينه باعتبار أن الشيوعيين أولى بتطبيق معتقدات المجتمع الدينية التي لا تضر بالفكر الذي يحمله المناضل، بل بالعكس فان ذلك يقربه من جماهير الشعب ويحببهم به... وقد رزق الشهيد بأربعة بنات كان يرى فيهن المستقبل الجميل الذي تمنى رؤيته في ابناء شعبه وجيله الجديد الذي وهب شبابه من اجله.... وبناته هن.. مي 1962، منى 1963، مها 1965، ندى 1968.

كان الشهيد رجل المهمات الصعبة بحق، فقد أرسله الحزب للعمل في مدينة الموصل في ظل الظروف الاستثنائية التي عاشتها تلك المدينة، لإعادة بناء تنظيمات الحزب هناك بعد الهجمة الشرسة التي تعرض لها الحزب الشيوعي العراقي أثر حركة الشواف الانقلابية عام 1959 واغتيال أعداد كبيرة من كوادر الحزب في مدينتي الموصل وكركوك، حيث كان العمل الحزبي فيهما من المهمات الخطرة جدا" وتحتاج الى خبرة وذكاء وتحمّل وقدرة على التكيف مع الظروف الاستثنائية الصعبة.

وكانت هذه النقلة اختبارا" شديدا" لصلابته وسعة تفكيره ودقة وسائله التنظيمية، حيث عمل عضوا" في اللجنة المحلية، التي كان يقودها آنذاك الرفيق الشهيد (طالب عبد الجبار)، وتضم في عضويتها كلا" من يوسف القس حنا وعابدين أحمد وعادل الصبحة وآخرين.... وكانت الخبرة التي كسبها في الموصل أعدته فيما بعد للعمل الحزبي في مدينة كركوك التي استمر نضاله فيها، حتى بعد انقلاب 8 شباط 1963 الدموي، حيث ساهم بنشاط ومثابرة نادرة في صيانة تنظيمات الحزب.

كان الشهيد يتنقل بين هاتين المدينتين وأختار أكثر المناطق خطورة فيهما محلا" لسكناه لأبعاد الشبهات عنه، ولتتبع آخر أخبار القوى المعادية للحزب من أجل أخذ الاحتياطات اللازمة لتجنبها.. وكان يتردد على المساجد ويقوم بالصلاة مع المسلمين ليستمع هناك الى الخطط الموضوعة من قبل العناصر الرجعية لاغتيال كوادر الحزب والتي تنفذها القوى الارهابية بعد أن اتخذت من المساجد قواعد لانطلاق عمليات الاغتيال تلك، موصلا" المعلومات الى تنظيمات الحزب منبها" رفاقه الى تجنب عمليات التصفية، وبذلك أنقذ حياة العديد من رفاقه الذين وضعت أسمائهم في قوائم الموت ، وقد أتخذ أحيانا"من مقابر المدينة مرات عديدة مأوى له تجنبا" لمخاطر جمة تعرض لها، أضافة لكل تلك المهام فقد كان يقود التنظيم العسكري للحزب في كردستان العراق. فعندما بدأت الحركة الكردية برفع السلاح ضد حكومة الزعيم عبد الكريم قاسم عام  1962 كان يبين دوما" موقف الحزب المعارض للقتال لقائد الحركة الملا مصطفى البرزاني مباشرة من خلال اللقاءات معه، حيث أن ذلك القتال من شأنه أن يضعف ثورة 14 تموز ويعرضها للخطر، وهذا بالفعل ما استغلته القوى الرجعية للقيام بانقلاب 8 شباط  1963 المشؤوم. بعد ذلك تنامى نشاطه في إقليم كردستان، وكلف في عام 1965 بالإشراف على فصائل الأنصار في السليمانية وأربيل، وبالتنسيق مع قيادة الحزب الديمقراطي الكردستاني ومن ثمة قيادة الإقليم.

في عام 1967 وبعد أكثر من أربعة أعوام قضاها مع رفاقه في قرى ومدن وجبال كردستان عاد الشهيد الى بغداد لينتخب خلال المؤتمر المُصّغر للحزب عضوا" في اللجنة المركزية ، فتعددت على أثر ذلك مسؤولياته ونشاطاته الحزبية، من بينها مسؤولية الخط العسكري في الحزب...

كـان الشهيد شيوعيا" متمرسا" وفي أعلى هيئات الحزب القيادية، ومارس خلال مهامه النضالية أخطر الأدوار لكن أسمه كان غير متداول بين الناس، ولا حتى بين الأوساط الحزبية، لا على نطاق واسع، ولا على نطاق ضيق فاظا"على سرية تحركاته وأمانه الشخصي.. كان الحزب قويا" وعظيما" به، حيث أستحوذ من خلاله على عقول وقلوب الجماهير، وكان بحق من الرفاق والقادة الصادقين المتعففين الذين أحبوا عوائلهم وشعبهم، وكرهوا الاستعراضات الزائفة الخادعة، ومقتوا الطائفية والعنصرية وكل أنواع التعصب الاعمى.

في تلك الأيام الصعبة التي مرّ بها الوطن، عاد حزب البعث الفاشي للسلطة من جديد في 17  تموز من عام 1968 وتحت شعارات وهمية مزيفة أنطلت مع الأسف على الكثير من القوى السياسية العراقية. وقد كرّس الشخص الثاني في حزب البعث المجرم صدام حسين جلّ اهتمامه لتقوية منظمة (حنين) الارهابية، والتي ضمّت داخلها القتلة المحترفيــن والتي طورها فيما بعد لتصبح جهاز المخابرات العراقية والذي اصبح أداة رهيبة بيد سلطة البعث لتصفية قادة وكوادر القوى السياسية المعارضة جسديا" سواء بالدهس بالسيارات أو بالرصاص والسموم القاتلة، وبناء على الأوامر الصادرة منه مباشرة، حيث كان يقود ويشرف على جميع الأجهزة الأمنية والمخابراتية كما أنه وضع على قمة تلك الأجهزة قتلة محترفون، أمثال المجرم ناظم كزار وقيادات البعث التي اتخذت من قصر النهاية أو الرحاب عندما كان يسمى سابقا" عندما كان محل سكنى العائلة الملكية  مقراً للتصفيات الجسدية لكل القوى السياسية.

بعد أن أستتب الوضع للسلطة الجديدة اتخذت قيادة البعث قرارا" بتصفية كوادر وقيادات الحزب الشيوعي العراقي بما فيهم الشهيد ستار خضير عضو اللجنة المركزية للحزب، لمعرفتهم بشخصيته وتجربته النضالية وصموده وتحمله مسؤولية خطرة ألا وهي أدارة تنظيم الخط العسكري، فباشرت عبـر أجهزتها المختلفة بجمـع المعلومات عن الشيوعيين المستهدفين ومن ضمنهم الشهيد ستار من كل الجوانب مستغلة بعض نقاط الضعف في عمل الحزب الشيوعي العراقي خلال تلك الفترة. إزاء ذلك كان لدى الشهيد حدس بمؤامرة اغتياله بعد أن تولد لديه والحزب أحساس بأن المخابرات العراقية تخطط لذلك.

وفي عصر يوم 23 / حزيران / 1969 خرج الشهيد ستار خضير من أحدى بيوت حي المعلمين في منطقة شارع فلسطين في مدينة بغداد قرب الجامعة المستنصرية، متوجهاً الى موقف الباصات للعودة الى أهله،  وهناك هاجمه شخصان مسلحان حاولا اختطافه لكنه قاومهم ببسالة، وكانت طبعاً مواجهة غير متكافئة بينهم أدت الى تمكين القتلة من اطلاق عدة رصاصات غادرة عليه أصابته في بطنه، غير أنه أستطاع رغم أصابته البليغة أن يركض  نحوهم ويمسك بأحدهم ويسقطه أرضاً وسقط معه لكنه أستطاع الوقوف رغم جراحه فما كان من القاتل الأخر أن عالجه برصاصة أخرى أصابته في ساقه أعاقته من الحركة، وغادر القتلة المكان مسرعين معتقدين بأنه فارق الحياة وهو ينزف بشدة، في الوقت الذي كان يبّين للمواطنين الذين التفوا حوله بأنه ستار خضير عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي وطلب اسعافه، بعدها غاب عن الوعي... وبعد مرور أكثر من ساعة على أصابته نقل بمساعدة أهالي المنطقة إلى مستشفى الطوارئ في شارع الشيخ عمر، وهو يعاني من جروح بليغة.

وبدلاً من أن يتم إلقاء القبض على القتلة القى رجال الأمن القبض على أخوته وعمه بسبب تواجدهم في ساحة المستشفى التي بدت مكتظة بالرفاق وابناء العائلة واتهموهم بالشيوعية، وقد أطلق سراحهم في اليوم التالي حيث كان العديد من أبناء عائلة الشهيد كانت تنتظر عند مدخل المستشفى نتيجة العملية الجراحية المعقدة التي قام بأجرائها الدكتور الجراح (نوري فتاح باشا ) والطبيب الشيوعي ( محمد صالح سميسم ) الذي بذل كل الجهود للاعتناء به وابقائه حيا"، حيث تم في العملية أيقاف النزيف الدموي، واستأصل قسم من الأمعاء المصابة، كما تم استخراج الرصاصة التي أصابت ساقه ليخرج بعدها من غرفة العمليات ليلا".

بعد ساعات أفاق الشهيد من المخدر وأستطاع أن يتحدث الى أهله وأخوته عن الحدث، وهذا ما أكده أمام حكام التحقيق وأحد رجال الأمن الذين حققوا معه وسألوه :

ـ من تعتقد الذي أطلق النار عليك؟

ـ أنهم أعداء الحزب الشيوعي العراقي .

ـ هل أنت من الحزب الشيوعي العراقي أم من جماعة عزيز الحاج؟

ـ لا يوجد في العراق غير حزب شيوعي واحد هو الحزب الشيوعي العراقي .

 فعلق رجل الأمن (هذا أشكًد صلب)..

رغم الحراسة المشددة من قبل الشرطة لغرفته كنت أخوته ومعارفه نتناوب بالدخول اليه وحراسته ليل نهار، حيث كان صدام حسين وناظم كزار يتابعون أخباره عن بعد في محاولة للإجهاز عليه فيما لو تحسنت حالته من جديد.

في اليوم الثاني بدأت صحة الشهيد بالتدهور، أذ بدأت أعراض بالتسمم تظهر على جسمه، نتيجة الرصاصات القاتلة التي أصابته والتي تبين فيما بعد أنها من النوع السام المخصص لمثل هذه الاغتيالات الجبانة.. وفي اليوم الثالث تدهورت صحته أكثر فأكثر أثر ذلك التسمم الذي سرى في كل أجزاء جسمه.. وحاول الأطباء بجهود استثنائية كبيرة إنقاذ حياته لكن دون جدوى، وكان أخيه الدكتور (باسم ) ملازما" لفراشه لا يفارقه مطلقا" طيلة فترة بقائه في المستشفى.. وفي ساعته الاخيرة رن جرس الهاتف من القصر الجمهوري في محاولة وقحة لأبعاد الشبهة عن الحكومة ودورها في عملية الاغتيال.

ـ أننا من القصر كيف حاله الأن؟ نحن مستعدون لأرساله الى أية دولة للعلاج فورا" !!!!

ـ شكراً على اقتراحكم المتأخر لأنه يلفظ أنفاسه الأخيرة .

فارق الشهيد الحياة ظهر يوم 28 / 6 / 1969، فارتعشت الغرفة الصغيرة في مستشفى الطوارئ، فصرخ الناس من رفاق وأصدقاء الشهيد الواقفين أمام المستشفى والمتواجدين في ساحتها الموت للقتلة البعثيين، عاش الحزب الشيوعي العراقي.

وفي قصر النهاية صرخ القتلة وعلى رأسهم المجرم ( ناظم كزار) وهو يشرب كأس النصر مع القتلة الأخرين (مات الشيوعي ستار خضير الحيدر).. وبنفس الوقت أهتز الحزب وارتجفت مدينة الكحلاء، وصرخ محبيه ورفاقه وأصدقاء العائلة (لم يمت ستار خضير الحيدر فهو يحيا في القلوب وسنواصل المسيرة).

بعد الوفاة قام حاكم التحقيق بتدوين أقوال المدّعين بالحق الشخصي والذين طلبوا الشكوى ومعرفة الجناة. وبعد ورود تقرير الطب العدلي لجثة الشهيد ستار خضير الحيدر قرر قاضي التحقيق غلق التحقيق لمجهولية الفاعل.

وفي مساء نفس اليوم 28 حزيران  1969 أصدر الحزب الشيوعي العراقي بياناً تحت عنوان ( الحزب الشيوعي العراقي ينعي عضو لجنته المركزية المناضل البطل ستار خضير )، يشرح فيه تفاصيل عملية الاغتيال مطالباً الجماهير لرفع صوتها بالاستنكار والاحتجاج على هذه الجريمة النكراء، مطالباً الحكومة بإصدار بيان تستنكر فيه الجريمة وتكشف النقاب عن مرتكبيها ومدبريها لأن دوائر الأمن على علم تام بهم، كما تمت المطالبة بأجراء تحقيق سريع وجاد وبمشاركة ممثلين من الحزب الشيوعي ونقابة المحامين.

المجد والخلود للشهيد ستار خضير الحيدر ولرفاقه الأبطال