من الذاكـــرة .. طفولة وذكريات-1  / فائز الحيدر                             

ثورة 14 تموز / 1958

(1)

أحداث ما قبل الثورة

من الصعوبة أحيانا" أن يتذكر المرء ويكتب عن أحداث قد وقعت قبل سنوات قليلة، فكيف بحدث مهم في تأريخ العراق وطنا" وشعبا" قد مر عليه احدى وستين عاما" وأعني هنا ثورة الرابع عشر من تموز / فرغم هذه السنين فلا زلت أعيش تلك الأيام وأحداثها بساعاتها التي لا تمحى من الذاكرة .

نشأت بين أحضان عائلة وطنية تقدمية ساهمت في النضال الوطني ما قبل ثورة 14 تموز وما بعدها، وبالرغم من إني لم أملك حينها ذلك الفهم والأدراك الكامل للأوضاع السياسية المعقدة والسائدة في تلك الفترة لصغر سني، ومع ذلك فقد كنت أتابع وأشارك في بعض تلك الأحداث أسوة ببقية الأطفال والشباب من أبناء الشعب.

 لا زلت أتذكر مشاركتي الأولى وأنا في العام الحادي عشر من عمري مع الآلاف من المتضاهرين في إنتفاضة عام 1956 التي أندلعت تضامنا" مع الشعب المصري ضد العدوان البريطاني الفرنسي الأسرائيلي جراء تأميم قناة السويس، كنت والمئات من أبناء الشعب البواسل من الأطفال والنساء والشيوخ في منطقة باب المعظم التي تحولت الى ساحة معركة حقيقية بين الشرطة أ, ما تسمى بـ (الشرطة السيارة) والطلبة وبقية قطاعات الشعب، كان المواطنون يتبادلون أوقات الأضرابات والأعتصامات وأماكنها التي يقوم بها طلبة الجامعة، كان الأطفال والشباب يهيئون أنفسهم مسبقا" لمساندة الطلبة في أعتصاماتهم ومواجهتهم للشرطة، يقوم الجميع بجمع الحجارة من أرصفة الشوارع والأزقة المجاورة لأيصالها من خلف جدران الكليات الى الطلبة المعتصمين في كليات القانون والآداب والعلوم والأقتصاد ودار المعلمين العالية للبنات والهندسة والتي كانت متجاورة لبعضها البعض في ساحة باب المعظم في ذلك الوقت، لغرض مقاومة الشرطة الملكية التي أستعملت القوة المفرطة ضد المتظاهرين والمعتصمين، في حين كان دور النساء هاما" بتجهزهم بالماء والطعام والهلاهل لرفع معنويات المعتصمين. لقد تركت تلك الأيام وأحداثها ذكريات لا تنسى في الذاكرة رغم مرور أكثر من ستين عاما" عليها ومنذ ذلك الوقت عرفت مدى حبي لشعبي ووطني وبدأ يتبلور لديّ الحس الوطني المعادي للنظام الملكي خاصة وإن أعدادا" ليست بالقليلة من المناضلين قد أعدموا أو قتلوا أو دخلوا المعتقلات والسجون بسبب نشاطهم السياسي وأخلاصهم للوطن.

وقبل أن أدخل تفاصيل معايشتي لأحداث اليوم الأول لثورة 14 تموز عام 1958 بساعاتها وتفاصيل ما حدث، لا بد من العودة لما قبل الثورة وبالتحديد لعام 1957، والتطرق لأحـداث جرت في ذلك العـام، ولم أكـن حينها قد تجاوزت عامي الثانية عشرة من العمر وأنا في السنة الأخيرة للدراسة الأبتدائية في ( مدرسة التضامن الأبتدائية ) في حي الكرخ، محلة الدوريين قرب مستشفى الكرامة في بغداد.

كان من عادة الملك فيصل الثاني بموكبه أن يتوجه الى عمله الرسمي في البلاط الملكي الواقع في منطقة الكسرة في الأعظمية، والذي أصبح فيما بعد النادي العسكري لقادة الجيش السابق، كان الموكب يأخذ مساره من قصر الزهور أو قصر الرحاب مارا" بشارع دمشق فساحة المتحف ، فعلاوي الحلة ، ثم يسارا" الى الشارع الموازي لشارع الشيخ معروف والذي تقع في وسطه مدرستنا ( مدرسة التضامن الأبتدائية )، ثم يتوجه نحو الشارع المحاذي لمقبرة الشيخ معروف ومنه عبور جسر الصرافية الحديدي ومن ثم الى منطقة الكسرة في الأعظمية حيث يقع البلاط الملكي، وطيلة سنتين قضيتها في هذه المدرسة كنا نشاهد وبشكل شبه يومي تقريبا" ومن خلف سياج المدرسة الواطئ وبابها الحديدي المشبك، الموكب الملكي وهو يمر ببطئ فيما يقارب الساعة التاسعة صباح وعادة ما يصادف مروره في فرصة الأستراحة الأولى وبعد الدرس الأول حيث تتم مسبقا" التحضيرات الأمنية في الشارع ويتوزع عناصر الشرطة على مسافات متباعدة متساوية، يسبقه وعلى بعد عدة مئات من الأمتار عدد من أفراد الحرس الملكي بخوذهم المعروفة وبزيهم الأبيض المميز وهم يستقلون الدراجات النارية، أما سيارة الملك فيحيط بها سبعة من أفراد الحرس الملكي بدراجاتهم أيضا"، ثلاثة منهم أمام السيارة وأثنان على جانبيها وأثنان في المؤخرة مع أنتشار بعض أفراد الشرطة في كل محلة يمر بها.

في صباح أحد أيام شهر نيسان من عام 1957 وأنا متوجه الى المدرسة كالعادة جلب أنتباهي على الأرض ) حصوة ) كبيرة يقارب وزنها ربع كيلوغرام ناعمة الملمس، ذات ألوان جذابة وكأنها من صنع نحات متميز، حملتها معي الى المدرسة وأنا فرح بها لغرابتها وألوانها الجميلة وكنت أود الأحتفاظ بها أو أضعها في مرسم المدرسة، بمرور الوقت أحسست بثقلها وقررت التخلص منها ولكن كيف ؟ وأنا على يقين إن الكل يتمنى أن يحصل على هذه التحفة الزاهية، دقائق من التفكير مرت بسرعة ولا أدري كيف خطرت ببالي فكرة رميها على الموكب الملكي عند مروره هذا اليوم من أمام المدرسة في فترة الأستراحة غير مدركا" ومباليا" بتبعات عملي الجنوني هذا .

 وفي الوقت المحدد لمرور الموكب ونحن في الأستراحة الأولى وبعد أن شاهدت الدراجة النارية الأولى للحرس والتي تسبقه عادة بمئات الأمتار صممت على تنفيذ المهمة مهما كان دون أن ينتبه لي أحد من الطلبة أو الأدارة، وبينما كان غالبية الطلبة قد تجمهروا على الباب لرؤية الموكب توجهت الى أحد أركان المدرسة اليمنى البعيدة عن نافذة الأدارة المطلة على الشارع وبحذر شديد رميت الحجارة من فوق السياج على الموكب وحسب تقديري للصوت الصادر من الدراجات النارية المرافقة للملك وعدت مسرعا" مندسا" بين بقية الطلبة الذين تجمهروا على سياج المدرسة وبابها وهم يصفقون للملك وكأن شئ لم يحدث.

 أصاب الهرج والمرج الموكب الملكي بعد أن أصابت ( الحصوة ) مقدمة السيارة، وتعالت أصوات وصافرات الشرطة وزادت السيارة الملكية من سرعتها يحيط بها الحرس الملكي في حين رفع بعض أفراد الشرطة أسلحتهم النارية تحسبا" للطوارئ ، أصاب الجميع الخوف ولجأ غالبيتنا إلى الصفوف لبداية الدرس الثاني.

لم تمض أكثـر من نصف سـاعة ونحن بالدرس الثاني حتى أقتحـمت قـوة كبيرة من رجال الشرطة والأمـن المدرسة وأدارتها وبـدأوا التحقيق مع المعلمين والأدارة وخاصة المعلمين المعروفين بميولهـم السياسية  الوطنيـة لكون إن بعض أفراد الحرس الملكي قد أكدوا إن مصدر الحجارة كان من المدرسة.

 أحتُجز كافة المعلمين في غرفة الأدارة وبدأ التحقيق معهم على إنفراد وتوقفت الدراسة، وبعدها طلب من كافـة الطلبة الأصطفاف في سـاحة المدرسة وبدأ ضابط شرطة برتبة مقدم يهدد الجميع بما فيهم أدارة المدرسة ويستعمل كلمات نابية ويتحدث عن ( محاولة لأغتيال جلالة الملك المفدى  ) ويطلب من الطلبة تزويده بأي معلومات عن الفاعل لكن دون جدوى. وبعد حديث طويل وتوجيهات إستمرت لأكثر من نصف ساعة تم إلغاء الدراسة لذلك اليوم وطلبت أدارة المدرسة من كافة الطلبة العودة الى بيوتهم على أن تقوم الشرطة بتحقيق مطول فيما بعد.

 عدت للبيت فرحا" بما قمت به، ولأنقل للوالد ما جرى وهو غير مصدق ما تحدثت به أمامه من عمل صبياني طائش، كانت توصية الوالد أن يكون هذا الحدث سرا" بالعائلة فقط لكونه قد يسبب خطرا" كبيرا" على جميع أفراد العائلة المعروفة بحسها الوطني. بعد تلك الحادثة لم نشاهد الموكب الملكي يمر من أمام المدرسة ويبدوا أن خط سير الموكب الملكي قد تغير لأسباب أمنية. ولم تتوصل تحقيقات الشرطة اللاحقة إلى أية معلومات عن الفاعل .

في اليوم الثاني وفي درس ( الأشياء والصحة ) طلب مني المعلم ( وصفي ) والمعروف بميوله الوطنية مقابلته بعد أنتهاء الدرس في غرفة المرسم لأمر هام، كنت خائفا" ومرتبكا" للغاية وخاصة من دعوته الغريبة الغير عادية هذه، عند لقاءه سألني فيما أذا كنت قد شاهدت من رمى الحجارة على سيارة الملك ؟ وكان جوابي بالنفي، وعندها وبعصبية تلقيت صفعة قوية على خدي الأيمن ثم مد يده اليمنى ومسك أذني اليمنى وأخذ يضغط عليها بقوة وأنا أصرخ من شدة الألم وهو يقول لا تكذب، لقد شاهدتك من خلف نافذة الأدارة وأنت ترمي الحجارة على الموكب الملكي ولحسن الحظ لم يشاهدك أحد غيري !!!! ، وأستمر يتحدث وهو ما زال يعصر أذني بقوة وهو يقول .. أولا"... أن رغبت أن تفعلها ثانية فعليك أن لا تدع أحدا" يشاهدك مهما كان ، وثانيا" ... إذا فعلتها فعليك أن تكون دقيقا" في التصويب حتى تكون الأصابة موفقة أكثر، وثالثا"... لا تخف فسيكون الأمر سرا" بيننا. الحقيقة لم أكن أتوقع ما حدثني به المعلم وصفي وهو المعروف بحسه الوطني بين المعلمين وأستمرت علاقتي به للشهور اللاحقة وهو يناديني داخل الصف بالبطل دون أن يفهم بقية التلاميذ ما يعني بذلك .

في السنة التالية وبعد ثورة 14 تموز كنت قد أكملت المرحلة الأبتدائية ودخلت المتوسطة ، وكان لابد لي من زيارة المعلم وصفي لتهنئته بالثورة ونقل تحيات الوالد له ودعوته لتناول طعام الغداء معنا، في الوقت الذي قدمني لزملاءه في أدارة المدرسة ضاحكا" ... أتعرفون من هذا البطل الشاب المتهور المجنون ؟ أنه من أراد أغتيال الملك في السنة الماضية وتحملنا نحن جميعا" تبعات عمله وتصرفه الجنوني ، حدث هذا وسط ذهول وضحك جميع المعلمين ومن كان في الأدارة وهم غير مصدقين !!!!

كندا / تموز / 2019