من الذاكـــرة، طفولة وذكريات 2، ثورة 14 تموز 1958 / فائز الحيدر

التأريخ Historiography ، هو علم كتابة التاريخ الذي يعنى بالحوادث والوقائع التى حدثت فى الماضى. فالتأريخ هو ذاكرة الأفراد والشعوب، ولكي تعرف الشعوب تأريخها عليها أن تربط حاضرها بماضيها. لذلك فكتابة التاريخ عملية صعبة ومعقدة لإنها تشمل جانبين، جانب علمى منهجى وجانب آخر فنى وأدبى، لذلك فالمؤرخين الكبار كانوا متفوقين علميأً و أدبياً وكانت كتبهم ولغاية اليوم تعتبر ذات معارف تاريخية وأدبية معتمدة. على المؤرخ أن يكون دقيق جداً، ويبذل كل طاقته من أجل أن يكون ما يكتبه دقيق وأمين وعادل ومتجرد من الأراء الشخصية والنزاعات السياسية والدينية كي يصل إلى الحقيقة. على المؤرخ الناجح أن يكون محب للدارسة والصبر حتى لو أخدت سنين عديدة لإن التعجل فى كتابة التأريخ يؤدي لطمس الكثير من الحقائق التاريخية، على المؤرخ أن يكون محب للبحث في ثنايا التأريخ ومتفرغ له ، أمينا"، شجاعا"، غير منحاز، ولا يكذب ويختلق القصص، غير منافق لكي يرضي الآخرين بل يكتب بصورة موضوعية على أساس النصوص والوثائق التي أمامه، يجب أن يكون نافذ البصيرة وله قدره على تحليل وفهم كل وثيقه تقع بين يديه و تفسير النوازع والدوافع .

السطور السابقة مقدمة لما كتب عن ثورة الرابع عشر من تموز، لقد أختلفت الكتابات والروايات وتناقضت التصريحات عن أحداث ثورة 14 تموز / 1958، وكيفية تنفيذها وظروف مقتل العائلة المالكة، فقد كتب الكثير من الكتاب والباحثين والدارسين عشرات الكتب والمقالات عن هذه الثورة وكانت متشابهة في الكثير من تفاصيلها لأعتمادهم على الحقائق وما جرى في الساعات الأولى لأندلاعها، وعلى لسان المساهمين فيها وحسب دور كل منهم في تنفيذها وما جرى من مفاوضات مع الحرس الملكي والعائلة المالكة والتي إستغرقت حوالي الساعتين وما جرى بعدها من تطورات أدت الى مقتل الملك وعبد الأله وبعض أفراد العائلة المالكة،  ومع ذلك فهناك الكثير من الأسرار لا زالت طي الكتمان والتي لم يتم التوصل الى معرفتها وفك رموزها لحد اليوم .

 بينما حاول البعض الآخر الكتابة عنها معتمدا" على مصادر وروايات منافية للحقيقة ومنقولة عن بعض ضباط الحرس الملكي أو أشخاص متعاطفين أو مقربين من العائلة المالكة، كان غرضهم الأساسي تشويه الثورة وقيادتها، وأصبحت آرائهم تلك معتمدة بمرور الزمن للكثير من الدارسين رغم عدم دقتها.

ونطلع أحيانا" عن ما يكتبه بعض الشباب ومن مزوري التأريخ عن هذه الثورة دون أن يعايشوا أحداثها أو يساهموا بها، والغريب إن بعض هؤلاء وبسذاجة يتهمون الحزب الشيوعي العراقي بتنفيذ الثورة ( الدموية ) والسيطرة على مقاليد الحكم بالرغم من إن الجميع يعرف إن الثورة جاءت نتيجة الجبهة الوطنية التي تشكلت عام 1954 وأن قادتها هم من الضباط الأحرار ومن مختلف الشرائح الأجتماعية والأتجاهات السياسية فمنهم القومي والبعثي والشيوعي والمستقل، وتسلم مقاليد السلطة ومنذ اليوم الأول الزعيم الركن عبد الكريم قاسم المستقل سياسيا" والقومي الناصري العقيد عبد السلام محمد عارف، إلى جانب مجلس السيادة الذي يرأسه الفريق نجيب الربيعي ولم يكن بين الوزراء أي شيوعي حتى عام 1960 حين أستوزرت نزيه الدليمي كوزيرة للبلديات.

كما إن البعض ممن كتبوا عن الثورة لم يميزوا حتى بين ( قصر الرحاب ) الخاص بولي العهد عبد الأله وعائلته الواقع في الجهة اليمنى من نهاية شارع دمشق وبالقرب من جسر الخر وبين( قصر الزهور ) الخاص بالملك فيصل الثاني والواقع في منطقة الحارثية في الطرف المقابل لقصر الرحاب بجانب ثكنات معسكر الحرس الملكي والذي لم تصله الجماهير يوم الثورة، ففي ليلة الثورة كان الملك فيصل الثاني قد قضى ليلته مع خاله عبد الأله وبقية العائلة في قصر الرحاب أستعدادا" للسفر الى تركيا وبذلك كانت فرصة موفقة لقادة الثورة في محاصرتهم فيه، وما أكتبه اليوم هو شهادة واقعية لليوم الأول للثورة كما عشتها بساعاتها والأيام التالية والتي حفرت أحداثها في الذاكرة منذ ذلك الوقت.

اليوم الأول لثورة 14 تموز / 1958

كان صباح يوم الأثنين الرابع عشر من تموز / 1958 صباحا" هادئا" لطيفا" بنسيمه العليل، في ذلك الصباح وبعد شروق الشمس بقليل إستيقظت فزعا" لسماعي أصوات لعدة رشقات لأسلحة رشاشة لم يسبق لأحد منا أن سمعها منذ فترة طويلة، وبعد ثوان تبعتها أصوات لرشقات أخرى، أيقضت الوالد من النوم لأطلعه على ما سمعت، توجهت الى جهاز الراديو لأستطلع الأمر، ليس هناك سوى الأناشيد الوطنية مما يدل على حدوث شئ غير طبيعي، أصوات لأسلحة نارية تسمع بين فترة وأخرى تلاها بعد فترة أذاعة البيان الأول للثورة وعلى لسان ( العقيد عبد السلام محمد عارف ) كما تبين فيما بعد، أعيد البيان مرات عديدة وتلتها دعوة العقيد عبد السلام محمـد عارف للجماهيـر بالتوجه لقصر الرحاب ( لدك أوكار الخونة )، الدهشة أصابت الجميع، طلب الوالد منا جميعا" الهدوء لغاية معرفة الأمر عن كثب فلربما هناك محاولة أنقلابية فاشلة كغيرها من المحاولات لأسقاط النظام الملكي. خرجت من البيت وتوجهت الى ساحة المتحف القريبة من دارنا، آلاف المواطنين يتجهون نحو شارع دمشق المؤدي لقصر الرحاب حيث يدعوا البيان الأول للثورة، الجميع يهتف بحياة الثورة والموت لنوري السعيد. الموطنون يهنئون بعضهم، آخرون يستفسرون من الذي قام بالثورة ؟ وما أسم قائدها ؟وهل نجحت الثورة أم لا؟ وغيرها من الأسئلة .

عدت مسرعا" لأخبر الأهل بما شاهدت، طلب منا الوالد عدم مغادرة البيت والأستماع الى الراديو، وفي غفلة منه تناولت رغيفا" من الخبز وتوجهت من جديد مسرعا" الى ساحة المتحف حيث حشود الجماهير تواصل توجهها بأتجاه قصر الرحاب وقد أصابهم الذهول لسماعهم البيان الأول للثورة، في ذلك الوقت وصلت شاحنة عسكرية ربط بها من الخلف مدفع مضاد للجو ونزل منها عدد من الجنود وأخذوا موقعهم في الساحة، وعلى عجل نصبت خيمة عسكرية صغيرة ووقف بجانبها بضعة جنود ملسحين بالرشاشات وتم وضع المدفع المضاد للجو في مكان مجاور للخيمة وبدأ طاقمه بوضع العتاد الخاص به، أحد الجنود أخذ وضع الأنبطاح واضعا" أصبعه على زناد رشاش آلي قديم ( فيكس ) وهو من مخلفات الحرب العالمية الثانية .

الساعة تقترب من الثامنة صباحا" وعلى بعد عدة مئات من ساحة المتحف ووسط الجموع الغفيرة لمحت دبابتين تتوجهان بأتجاه قصر الرحاب قادمة من معسكر الرشيد وعلى ظهر أحدها كان أبن العم ( الملازم الأول جبار خضير الحيدر ) مع ضابط آخر تبين لي فيما بعد إنه ( الرائد أبراهيم كاظم الموسوي)  بعد أن جاءت التعليمات لهم بالتوجه لقصر الرحاب لدعم القوة المهاجمة ولأسكات المقاومة هناك إن وجدت، حييته بحرارة وحاولت فرحا" الصعود على ظهر الدبابة وهي تسير ببطئ وسط حشود الجماهير ولكني لم أفلح في ذلك.

 يقول النقيب المتقاعد جبار خضير الحيدر في ذكرياته عن ذكرى الثورة ( كما وصل في الوقت ذاته عدد من الدبابات قادمة من معسكر الرشيد عبر جسر الجمهورية بقيادة الرائد الشيوعي الشهيد ( أبراهيم كاظم الموسوي ) الذي أستشهد على يد البعثيين يوم 8 شباط الاسـود عام 1963، كنت أعرفه جيـدا"، ركبت معه في نفس الدبابة، وزميلي ( النقيب نعمة ( صعد في الدبابة الثانية وتوجهنا نحو قصر الرحاب حسب طلب العقيد الركن عبد السلام عارف، مررنـا بساحة المتحف التي كانت مكتضة بالجماهيـر الثائرة تهتف بحياة الجمهورية وقادتها، لا يوجد عتاد في الدبابات، فأخذنا غدارات الجنود داخل الدبابة وكانت دون عتاد أيضا"، وعند وصولنا الى قصر الرحاب وجدنا إن المقاومة قد إنتهت بفعل قوة المهاجمين الأبطال الذين هم ضباط من مدرسة الأسلحة الخفيفة والتي آمرها ( الزعيم المرحوم ابراهيم الجبوري ) ) 1 ) .

آلاف من الجماهير تأخذ طريقها نحو قصر الرحاب، وتزداد الحشود كثافة كلما تقدمت الى الأمام، قبل أن نصل الى مفرق المنصور، سمعنا رشقات لأسلحة رشاشة وأخرى فردية متباعدة وتلاها صوت أنفجارات هزت أجواء المنطقة آتية من موقع قصر الرحاب الذي لا يبعد عنا سوى بضعة مئات من الأمتار، أصبت بالتعب والأعياء لشدة الأزدحام وحرارة الجو ولم أتمكن من المواصلة وقررت العـودة، خاصة وإن بعض الجنود وقفوا حائلا" دون وصول الجماهير للقصر لكون إن المقاومة من داخل القصر لا زالت مستمرة، وسط تساؤلات البعض من الجماهير هل نجحت الثورة ؟ ما مصير الملك فيصل وعبد الأله ونوري السعيد ؟ من هم قائدة الثورة ؟

بعد ذلك لم نعد نسمع أية اصوات لأعيرة نارية وهذا يعني إن المعركة قد حسمت لصالح الثورة وكانت الساعة تقترب من التاسعة صباحا"، سيارات عسكرية ومدرعات محملة بالجنود لا زالت تتوجه نحو القصر لدعم الثوار والبعض الآخر قادمة، مدرعة عسكرية ومجموعة من الجنود بأسلحتهم الرشاشة وضعت عند الباب الرئيسي لمعسكر الوشاش ( منتزه الزوراء حاليا" ) بعد أن تمت السيطرة عليه من قبل الضباط الأحرار والمراتب المؤيدين للثورة، وعلى بعد عدة مئات من الأمتار من الباب الرئيسي للمعسكر كانت جماهير غاضبة تحيط بسيارة خاصة صغيرة حمراء اللون تحمل أرقام أجنبية وبداخلها أثنين من الأجانب وهم يحاولون الفتك بهم، لم نعرف من هؤلاء الأجانب ولمن تعود هذه السيارة، عدد من الجنود وبعض المدنين يحاولون الحفاظ على حياتهم وأبعاد الجماهير الغاضبة عنهم. واصلت مسيرتي نحو ساحة دمشق قرب المحطة العالمية وقد أصابني الأعياء ولم أتمكن من السير ، جلست في المتنزه الواقع في الركن المقابل للمحطة لبعض الوقت والذي سمي بعد الثورة ( بمنتزه 14 تموز ). ومن ثم عاودت السير بأتجاه ساحة المتحف .

الهوامش

1 ـ جبار خضير الحيدر ، ستبقى شمس تموز خالدة مهما جار الزمن ، الحوار المتمدن - العدد: 2343 في 15 تموز / 2008

2 ـ الصورة الثانية تبين عدد من الجنود امام قصر الرحاب بعد السيطرة عليه