من الذاكـــرة، طفولة وذكريات 3، ثورة 14 تموز 1958 / فائز الحيدر

مشاهد مؤلمة غير مسيطر عليها

الساعة تشير الى ما يقارب الحادية عشرة صباحا"، المئآت من الجماهير تتوجه نحو ساحة المتحف قادمة من جهة المحطة العالمية وهي تحيط بشئ ما وسط الهتافات العالية، دخلـت بصعوبة وسط هـذه الجموع الغاضبة لأرى جثة ممزقة لأنسان عاري ذو جسم أبيض وقد فقدت كل الدماء الموجودة فيها من كثرة الطعنات والجروح، علمت إن هذه الجثة تعـود للوصي على العرش ( عبد الأله ) وقد ربط بحبلين أحدهما حول الرقبة والآخر ربط من تحت الأبطين، وبالرغم من كل شئ فملامح عبد الأله كانت واضحة لمن رآه سابقا" وهو مفتوح العينين، وأصبحت الجثة المشوهة عبارة عن شحم أبيض يعلوه وجه عبد الأله، إنهالت على الجثة الركلات بالأقدام، أحدهم يصيح هذا جزاء الخونة وهو ينهال بحذاءه على الجثة، آخر سحب خنجره وطعن الجثة بعدة طعنات وهو يصيح هذه إنتقاما" لأخي الشهيد، العار للقتلة الخونة.

 واصلت مسيرتي مع الجموع وأنا انظر الى الجماهير الغاضبة الفاقدة للأنضباط والشعور الأنساني في تلك الساعات، وكلما تقدمت الحشود الى الأمام ينظم أليها المئات من الجماهير الهائجة والغاضبة القادمـة من أحياء مجاورة لتلقي نظرة أو تساهم في ضربة أو طعنة في الجثة، الحرارة تزداد تدريجيا" والجماهير تواصل سحل جثة عبد الأله نحو علاوي الحلة ومن ثم شارع المأمون المؤدي الى جسر الشهـداء، وأمام مخزن أحذية باتـا المقابل ( لفندق المأمون ) (2) توقفت الحشود والسحل وصعد أثنان منهم الى الطابق الثاني من الفندق ومن شرفته رموا حبلين تم ربط الجثة بهما والتي تقطعت بعض أطرافها وتم رفعها الى ما فوق الشرفة بحوالي المترين وبقيت هناك لفترة أكثر من ساعتين وبعد إنزالها تركت آثارا" على شكل بقعة دهنية واضحة على جدار الفندق كنت أشاهدها كلما مررت من أمام الفندق ولأشهر طويلة لاحقة، في ذلك الحشد والحرارة الشديدة والروائح المختلفة والعرق المتصبب من الأجسام المتراصة مع بعضها أصبت بالأعياء ولم أستطع التنفس خرجت بعدها بصعوبة من بين الحشود لأعود متوجها" لمنطقة الشواكة حيث السفارة البريطانية وتمثال مود المنتصب أمامها. بينما واصلت حشود الجماهير سحل الجثة بعد إنزالها متوجهة نحو وزارة الدفاع مرورا" بجسر الشهداء كما سمعت فيما بعد .

وبعد عدة أشهر من الثورة حصلت من أحد المعارف على مجموعة أسنان مع جزء من اللثة حصل عليها من فك عبد الأله بعد أن تهشمت جمجمته وتناثرت أسنان الفكين، كانت عبارة عن أربعة أسنان، أثنان منها محشوة بالبلاتين، وقد أحتفظت بهذه الأسنان في مادة الفورملدهايد لغاية السبعينات حيث تخلصت منها آسفا" بسبب تكرار عمليات الدهم والتفتيش لدارنا من قبل رجال الأمن وخوفا" من أن تكون مستمسكا" يدخلني في مشاكل أنا في غنى عنها فيما لو وقعت بأيديهم .

في منطقة الشواكة حيث ينتصب تمثال فاتح بغداد في 11 / تموز / 1917 الجنرال الأنكليزي ( مود) وبملابسه العسكرية ممتطيا" حصانه في ساحة صغيرة أمام السفارة البريطانية، إنه رمز لأحتلال العراق من قبل بريطانيا، ( أصيب الجنرال مود بمرض الكوليرا وتوفي في 18 / تشرين الثاني / 1917 ودفن في مقبرة الأنكليز في باب المعظم في بغداد )، شاهدت جندي عراقي يمسك رشاشة ميدان ثقيلة منبطحا" على الأرض بجانب الساحة الأيمن ، باب السفارة مفتوح على مصراعيه ، السيارة الحمراء الخاصة التي شاهدتها قرب معسكر الوشاش كانت متوقفة في مدخل السفارة وعلى بعد عدة أمتار من الباب الرئيسية .

المئات من الجماهير تحاول أسقاط هذا النصب، مستخدمة المطارق والفؤوس دون جدوى، كانت البداية تحطيم وأزالة اللوحة البرونزية المثبتة على مقدمة قاعدة النصب الكونكريتية، وبقي التمثال عصي عن السقوط رغم كل المحاولات، وضعت عدة سلالم خشبية على الجانبين وتسلق العديد من المواطنين وربطوا حبال غليظة وسلاسل حول أماكن ضعف التمثال وحاولت الجماهير إسقاط التمثال دون جـدوى، بعـد عدة محاولات فاشلة توجهت سيارتي حمل ثقيلة وتم ربط السلاسل بها وتم سحب التمثال بأتجاهات مختلفة ولعدة مرات لغاية أتمام المهمة بنجاح وسط هلاهل وهتافات الجماهير، وتكسرت بعض أطراف التمثال وأكملت الجماهير بما تملك من أدوات تكسير ما يمكن تكسيره، في تلك الدقائق قابلت أبن العمة المرحوم الدكتور ( لفته طارش العبيدي ) وهو يحمل كامرة صغيرة قديمة وطلب مني أن آخذ له صورة تذكارية عند سقوط التمثال، ساعده البعض على تسلق القاعدة ووقف في مكان التمثال بعد سقوطه ولكنه فقد توازنه لضيق المسافة التي وقف عليها وأستدار قليلا" وبدون أي إنتباه أخذت الصورة وكان مع الأسف في وضع معاكس ولم يظهر غير ظهره في الصورة بعد سقوط التمثال،  وكانت هذه آخر صورة في الكامرة .

في تلك الساعات كان هناك تبادل أطلاق نار متقطع بين المواطنين من خارج السفارة وموظفي وحرس السفارة من داخلها، ثم قامت على أثرها حشود المواطنين الغير مسيطر عليهم بأقتحام السفارة ونهبها من جانب النهر، ومن الباب المقابل لبيت المرحوم ( الشيخ عبدالله الشيخ سام) وتم حرق بعض أجنحتها، المئات من المواطنين تحمل ما يمكن حمله من داخل السفارة من بابهـا الأمامية وبابها الجانبي القريب من نهر دجلة، كراسي خيزران، طابعات، مكاتب مختلفة الأحجام، أسـرة نوم، قاصات حديدية صغيرة وضعت على عربات خشبية ... لوحات، وحتى أدوات المطبخ الخ .

بعد تلك المشاهد توجهـت الى ساحة الملك فيصل الأول المقابلة لجسر الأحرار في الصالحية حيث ينتصب تمثـال الملك فيصـل الأول لأرى أن التمثال قد تم أسقاطه في وقت سابق. المئات من المواطنين يتضاهرون أمام مبنى دار الذاعة العراقية في الصالحية والتي تحيط بها المدرعات تأيدا" للثورة وقادتها. كانت جولتي لهذا اليوم مرهقة جدا" ولكنهـا طبعت في الذاكرة  

في يوم 16 تموز تم السمـاح للمواطنين بزيارة قصـر الرحاب ووجدتها فرصة لا تعوض للزيارة، كان قصر الرحـاب من الأمام مكون من طابقين ومربع الشكل، بابه الأماميـه تؤدي الى الداخل، وعلى ذات الباب شرفة واسعـة تتوسط الطابق الثاني من القصر مستندة على أربعـة أعمدة متباعدة عن بعضها بشكل متساوي، كما يحيط بالقصر سياج خارجي بإرتفـاع حوالي ثلاثة أمتـار مبني من الطابوق أيضا" على شكل مربع، يفصل بين

السياج الخارجي ومدخل القصر حديقة بسيطة تحيط بها الزهور، وله باب عريضة أمامية للدخـول وعلى جانبي الباب الخارجيـة غرفتين مخصصة للحرس الملكي، ومنها يوجد طريق يؤدي لباب القصر الداخليه

بضعة جنود موزعين على البوابة الأمامية وبعض ردهات القصر للحراسة، المئات من المواطنين يدخلون القصر، أصاب القصر الكثير من الدمار والنهب، وما تبقى هو عبارة عن حطـام مبعثر هنا وهناك، أثـار حريق قد حدث في أحدى الغرف في الطابق الثاني نتيجة القصف، قذيفة مدفع قـد أصابت أحدى أعمـدة شرفة القصر من جانب اليمين،  صور العائلة المالكة الزيتية محطمة ومرمية على الأرض، الأثاث محطمة وممزقة، قاصة حديدية مثبتة في الحائط فتح بابها الرئيسي لها بآلة حادة وتم سرقة محتوياتها، أسرة النوم والأفرشة مبعثرة في كل مكان، حنفيات الماء تكسرت وسرق النفيس منها، أوراق وووثائق مبعثرة في كل مكان، بعض الغرف إحترقت ويبدو حدث ذلك من جراء القصف المدفعي للقصر يوم الثورة، السرداب أصابه الحريق وقد تسربت أليه المياه وظهرت منه رائحة العفونة، كل شئ مبعثر ومحطم وفي كل زاوية من زوايا القصر، في حديقة القصر الخلفية حيث حيث تتواجد ساحة الطائرة والتنس وأماكن تربية الطيور النادرة فارغة إلا من مخلفاتها، أجزاء وقطع من أفلام سينمائية متناثرة لحفلات رقص صاخبة في حدائق القصر أحتفظت بأجزاء منها تبين الملك وعبد الأله ونوري السعيد وآخرين يلعبون ويقفزون فوق بعضهم البعض في إحدى الحفلات، أجزاء من أفلام سينمائية لنساء ولرجال مجهولين مبعثرة على الأرض. وبعد أسابيع ظهرت في الأسواق كثير من الحاجات التي تم سرقها من القصر .

بعد عدة أيام زرت مع بعض الأصدقاء قصر نوري السعيد في منطقة كرادة مريم بجانب نهر دجلة، لقد أصاب القصر هذا ما أصاب قصر الرحاب من نهب وتدمير ...!!! ويمكن إعتبار المشهد واحد سوى تغيير في أسم القصر. وبعد بضعة أيام أفتتح بيت قائد الثورة عبد الكريم قاسم للجماهير والواقع بالقرب من ساحة الجندي المجهول وفي الشارع المجاور لمسجد الفردوس المطل على ساحة الفردوس في شارع السعدون، ذلك البيت المتواضع لمواطن عادي فقير وبكل ما يحتويه البيت من آثاث .
الهوامش

* ـ لقد ذكر أسم الفندق بأسماء مختلفة من قبل بعض الكتاب فمنهم من أسماه ( الرحاب أو الأحرار ، أو الكفاح ) ولكني أوكد انه فندق المأمون تماشيا" من أسم الشارع الموجود فيه .
 3 ـ الصورة الأولى لجماهير بغداد وهي تعتلي قاعدة تمثال الجنرال مود بعد ان حطمته صبيحة يوم الثورة .
 4 ـ الصورة الثانية الجماهير تقف امام قصر الرحاب صبيحة يو 16 تموز  .