من الذاكـرة : الكاتب والأديب قاسم عبد الأمير عجام/ فائز الحيدر

في ذكرى استشهاده السادسة عشر

تمر يوم غدٍ السابع عشر من آيار / 2020 الذكرى السادسة عشر على إغتيال الكاتب والناقد والأديب ( قاسم عبد الامير عجام ) مدير عام دار الشؤون الثقافية في وزارة الثقافة. لقد طالت يد الأجرام هذه الشخصية الأدبيـة والوطنية ورئيس اتحـاد وادباء وكتاب بابل ومديــر ناحيـة مشروع المسيب، وأســتشهد معه في الحـادث الأجرامي الزميل والصديق (باسل نادر كريدي) مدير زراعة مشروع المسيب، حيث هاجم القتلة الظلاميون يوم الأثنين 17 / آيار / 2004 السيارة التي كانا يستقلانها وهم في طريقهم الي بغداد واطلقوا عليهما وابلاً من النيران أدت الي مقتلهما علي الفور.

ان عملية الاغتيال هذه قد اثبتت حقيقة الدوافع الإجرامية لبقايا البعث والقوى الظلامية المتحالفة معها التي ترمي الى وقف عجلة أعادة بناء الواقع الثقافي وما تمّ تخريبه طيلة فترة أمتدت لأكثر من خمس وثلاثين عاما" في المجال الثقافي من قبل النظام الدكتاتوري السابق، ان منفذي هذا الحادث الأجرامي لم يستهدفوا الشهيد الراحل فحسب، انما استهدفوا اغتيال الثقافة العراقية الوطنية بكل أبداعاتها ورموزها المناضلة التي قاومت بكل ما تستطيع  النظام الدكتـاتوري والثقافـة الفاشية لحزب البعث والتي اجتاحت العراق وشملت كافة جوانب الحياة..

ولد قاسم عبد الامير عجام في مدينة الحلة / قضاء المسيب / عام 1945 من عائلة فقيرة مناضلة، وأكمل دراسته في كلية الزراعة / جامعة بغداد / قسم التربة وعمل منذ تخرجه في مشروع المسيب الكبير الذي يعتبر من المشاريع الزراعية الكبرى في العراق، حصل بعد سنوات من العمل الشاق على درجة الماجستير في مايكروبـولوجي التربـة عام 1977 من كليـة الزراعـة / جامعـة بغـداد وتخصص في زراعـة ونشـر الفطـر    Mushrooms  وبكتريا البقوليات في المشاريع الزراعية، وهي تجربة زراعية جديدة ، بيد أن هذا التخصص العلمي لم يمنعه من المساهمة في النشاط الثقافي العراقي والأدبي من اواسط الستينات حيث عرف ببراعته في النقد القصصي والتلفزيوني والسينمائي وألف كتاب ( النور المذبوح ) عين ثقافة العراق، اصدار اتحاد الأدباء والكتاب / فرع بابل، وكتاب ( الضوء الكاذب في السينما الامريكية ) في عام 2001 ، إضافة الى العديد من المقالات سواء في المجال الزراعي او النقد الأدبي والسينمائي نشرت في العديد من المجلات الأدبية والزراعية.

في بداية السبعينات وعلى صفحات صحيفة طريق الشعب بدأنا نقرأ لزميلنا الكاتب والأديب قاسم عبد الأمير عجام ، ولم نكن نعرف ان للشهيد هذه المقدرة الثقافية على الكتابة في نقد المسلسلات التلفزيونية العربية وهو المهندس الزراعي المتمرس، وكان له اسلوبه الخاص والمتميز في نقد، المسلسلات والأفلام العربية التي تعرض على الشاشة الصغيرة، ومنها مسلسل أبن الحتة والقط الأسود وفلم الأرض وغيرها وفي الأسبوع التالي نقرأ لقاسم النقد الجريئ لهذا الفلم او ذاك المسلسل ونطلع على مواقع الأخفاق والنجاح في ذلك وان نميز ما شاهدناه بأعيننا وما شاهدته عيون قاسم المتمرس بالنقد ونكتشف عندئذ الطريقة التي يتبعها المنتجون والمخرجون من اصحاب الأموال لهذه المسلسلات في تشويه افكار المشاهدين صغارا" وكبارا" على حد سواء ويزيل الألتباس عن عيون المشاهدين لكي يكونوا على بينة لما تبثه شاشة التلفاز المبرمجة المعبرة عن اعلام السلطة وسياستها .

في اواسط السبعينات وبحكم العمل الوظيفي الذي يربطنا إلتقيت بالشهيد قاسم لأول مرة في مكتبه في مشروع المسيب فوجته مثقفا"، متواضعا" لطيف المعشر تعلوا الأبتسامة على شفتيه بشكل دائم، تعارفنا بسرعة وربطتنا علاقات صداقة متينة تجاوزت حدود العمل وسط مراقبة عيون عملاء السلطة المنتشرة في كل زاوية من مرافق العمل، واستمرت لقائاتنا بين فترة واخرى نتبادل الحديث عن الشعر والأدب والنقد التلفزيوني ونسينا الأختصاص ودائما" ما يرافقه في تنقلاته زميل الدراسة الصديق الشهيد ( باسل نادر كريدي) مدير زراعة مشروع المسيب، ذلك الصديق الذي اشتركت معه في عدة معارض فنية للرسم طيلة سنوات الدراسة .

في صيف عام 1977 إلتقيت بالشهيد (ابو ربيع) في سفرة سياحية نظمتها النقابة الى موسكو، كانت السفرة رغم قصرها ولم تتجاوز الثلاث اسابيع لكن كانت سفرة رائعة، زرنا خلالها عدة مدن سوفياتية وكان الشهيد قاسم يقوم بتسجيل ملاحظاته عن كل ما يشاهده من معالم سياحية ومتاحف رسم ونصب تذكارية ويستعد للكتابة عنها، كنا نبحث سوية عن المتاحف وصالات الأوبرى ومراكز الثقافة لنروي عطشنا الثقافي، وفي مدينة (سوجي) على شاطئ البحر الأسود كنا نقضي ساعات الظهيرة على ساحل البحر المجاور لفندقنا لأخذ الحمام الشمسي، كان أبا ربيع ذا جسم ابيض مملوء بعض الشئ وكأنه لم يرى الشمس وكنت النقيض له اسمر الجسم نحيفا"، كان يلاطفني بقوله ( سبحان الله .. وهما كلمتين عادة ما يرددهما في حديثه....( رغم اختلاف اجسامنا في كل شئ لكن افكارنا متطابقة في كل شئ ) واخذنا نؤلف ضاحكين نظرية جديدة سميناها نظرية (التناقض والتطابق)، وعند عودتنا للوطن افترقنا من جديد وأصبحت لقائاتنا متباعدة بسبب الحملة الشرسة والتصفيات ضد الحزب الشيوعي عام 1979  التي حالت دون لقاءنا مجددا" وفقدت اخباره.

قبل يومين وانا أتهيأ  لمغادرة الوطن في آيار عام 1979 التقيت به صدفة في نفق ساحة التحرير في بغداد وكان لقاءنا حارا" وبعد الأطمئنان عليه اخبرته بقراري مغادرة الوطن لأن الوضع يزداد سوءا" وفيما اذا كان يفكر بالمغادرة ايضا"... عقب بقوله.. كيف اغادر الوطن يا رفيقي العزيز وانا من ألتصق بهذه الأرض وحب الوطن ويصعب عليه الأبتعاد عنه، كيف اغادر وانا مسؤول عن اعالة عائلتي الكبيرة وجلهم من النساء وليس هناك من معيل اخر يحل محلي، انهم يقتلون الأنسان بكل بساطة لا لشئ سوى انه يحمل فكرا" وعقلا" مغايرا" لفكرهم، أية انسانية وأي فكر وأي ثقافة يحملون ؟ انهم يحملون ثقافة فاشية بكل معنى الكلمة، على كل حال ستسمع اخباري وسأكون على العهد كما عرفتني ولا تنسى ان نتواصل.

 وفي نهاية السبعينيات وفي ذورة بطش الدكتاتورية الصدامية ضد قوى اليسار العراقي توقف الشهيد قاسم وابتعد قليلا" عن الثقافة لأنه كان يدرك ان مواصلته للكتابة ستوصله الى حتفه لذلك تفرغ لعمله ووظيفته كمهندس زراعي في مشروع المسيب دون ان ينتبه له أحد وتصور البعض انه قد غادر الوطن أسوة بالآخرين من المثقفين الذين فروا من حملات الاضطهاد والتنكيل التي كان يقوم بها النظام.

 وبعد سقوط الصنم عاد الشهيد من جديد ليواصل عمله الثقافي الذي احبه .. مبتعدا" عن دوائر الزراعة التي يعمل بها.. ليكتب تصوره لمستقبل الثقافة العراقية للمرحلة القادمة وسبل النهوض بها وأبراز وجهها الحقيقي على أنقاض الثقافة الدكتاتورية ومع الأسف لم يكمل ذلك الحلم حتى وصلنا خبر استشهاده المفجع مع زميلنا باسل نادر كريدي على أيدي القتلة من القوى الظلامية و كان استشهاده صدمة كبيرة لنا جميعا".

 ولا يسعنا الا ان نقول لصديقنا ورفيقنا الشهيد أبا ربيع بأن اسمك سيبقى خالدأ في سماء الثقافة العراقية فأنت ورفيقك باسل كريدي في ذاكرتنا دوما" فلكم الخلود فأنتم في القلب دوما".

كنــدا

 

 16 / آيار / 20