مذكرات بيشمركةِ.66 / سعيد الياس شابو - كامران               

العلاقات الودية

2014.12.17                                                                       

بينما كان المسير الشاق في سحق الثلوج الوافرة المثلثية وشق الطريق الغير سالك .. مستمر .. وأبو عادل الشايب لم يترك حديثه جانبا .. إلا وجاء بالجديد الطازج .. وحتى غفورين لم يسلما من التعليقات .. فهو يقول .. بالله عليكم .. هسع أحنة متوازين ومجبورين أن نقطع المسافات .. بس أنتم ليش / لماذا ؟! ويرد غفور .. نحن كسبة وهاي قسمتنا .. بس أنتم ليش ؟! ونواصل المسير ونتجاوز النهر البارد ( كاده ر) ، وبمجرد تجاوز النهر .. الجبل الشامخ بأنتظارنا .. إنها صعدة قوية ومسير وتسلق في غاية الصعوبة والخطورة وأي تأخر في المسير سيقودنا الى الهلاك حسب تصريحات الغفورين !!.

وبالرغم من البياض الناصع الذي أبيض المنطقة وكسى كل الجهات ..إلا أن الظلام المسائي .. قد  داهمنا وكأنه الحظ لعب دورا خدوما ويسر لنا من أن نتقرب من القرية في خطوات بطيئة وسريعة !! متعبة ، وقبل بلوغنا قرية بيمزورته بعشرات قليلة من الأمتار عتمت الدنيا بوجهنا وإذ بعاصفة تلجية قوية غاضبة استقبلتنا ! ولدفائق قليلة أنهكت وانهمكت قوانا ونالت منا الكثير ومما زادت متاعبنا ومعتقدين .. من أن بلوغ القرية أصبح من الصعب، بحيث كانت العاصفة قد أنذرتهم منذ وقت في القرية والمنطقة ونحن بلغناها وليست هي !! لكون وبعد رؤية مصابيح القرية .. تنفسنا الصعداء .. بحيث إن البعض من أهل القرية الذين كانوا يترقبون قدوم غفورهم .. وعندما لقيت أبصارهم  الحركة الغير الاعتيادية  .. استغربوا مما شاهدوه! كيف نجينا من الموت العاصفي المحقق والمحتوم وهذه الأجواء المحرمة طقسيا ومناخيا ووطنيا ودوليا وحزبيا !!!!! المهم بعد بلوغ القرية وكانت الساعة تشير الى السابعة مساءا من ذلك التأريخ .. أي في 17 / 12 / 1981 .                            

كانت المناظر الخلابة في المنطقة وخاصة القرية الحدودية لو لا العاصفة لرسمت و طبغت صور أجمل في الذاكرة الأنصارية لمسيرة مستمرة في ذلك اليوم والتي استمرت ل 15 ساعة جبلية ... فمن اللامعقول ما قمتم به من السفر في مثل هذه الأجواء قالوا .. والقول منسوب لأهل القرية!

وأضاف القروي مستمرا في حديثه .. محظوظين أنتم ! لو بقيتم اليوم في الطريق لكان مصيركم الجماد الى الشهر الرابع الربيعي .. لكون الطريق لا يسنح في مثل هذه الأجواء من الخروج لتلك المسافات والضروف المناخية في المنطقة ! ونحن لا نعير أية أهمية تذكر لحديث القروي .. لكوننا .. ليس لا أباليين .. وإنما لامفر لنا سوى الخيار الذي سلكناه وقررناه !!.

 

قرية بيمزورته (بئ مزورتئ ) لم نشاهدها ونطل ضيوفا فيها وعلى أهلها الطيبين وبيوتهم المتواضعة وفلاحتهم ومراعيهم وأكواخهم المصنوعة من الروث ( روث الحيوانات والماشية ) والذي يستخدم لأحماء التنور عند الخبز والتدفئة اليومية في الصوبات الحطبية وللطبخ وسخن المياه للأستحمام وفي الوقت ذاته يعتبر مادة غذائية سمادية للمحاصيل الصيفية وخاصة زراعة الخضروات .

كانت أم غفور قلقة وقلبها يتسارع الدق ! ! ! ! ! كلما أظلمت الدنيا وزاد من عتمتها .. لكون فلذ كبدها وعدها بالمجيء سالما حاملا معه الحمل الذي كاد أن يصبح الممول الحياتي الجزئي بعد مبيعه بثمن مربح  لكون القرويين هم بأمس الحاجة لمثل هذه الأعمال وخاصة القرى الحدودية .

وعند مدخل القرية .. المصابيح سلطت أضوائها على البياض الثلجي ويعكس بريقها وكأننا في الصباح وليس في المساء ، وكانت أم غفور شغوفة وحنينة وحنان الأم وقلب الأم وتأمل الأم وتفكيرها .. كل الأمور تصب في وصول الأبن بسلام الى قواعده ! وفعلا هذا ما حدث .

استقبلتنا أم غفور الطيبة .. أيما ترحيب ؟ وسارت الدماء في عروقها وشرايينها وكادت لا تصدق مجيء غفور سالما .. أي كان قد وعدها بوصوله قبل يوم ! وها نحن أخرناه عنوة يوم آخر!

الوالدة العجوز .. أسرعت الخطوات ملتفتة يمينا  و شمالا .. المفرزة في ضيافتها .. أبو عادل الشايب ، أبو كوران وأم كوران ( أم صباح ) ، أبو جميلة  ( كوكب حمزة )، إحسان ، ماجد ، ومن طرف مفرزتنا مام خدر روسي ، ملا عوسمان و كامران .                                              

وعند مدخل البيت القروي للعزيز غفور ... ثمة غرفة كبيرة تتسع للجميع ، ويتوسط الغرفة تنور أرضي ! والفرق بين التنور الأرضي المغروس والتنور الذي يكون مرتفع عن الأرض ثمة فرق ، هنا في التنور الأرضي يحتفظ بالحماوة لمدة أكثر عند الخبز ومن ثم يمكن التدفئة عبر انزال الرجلين في عمق التنور وذلك من أجل التدفئة ومن ثم تجفيف الملابس وتسخين الطبخ البارد وربما أمور أخرى واستخدامات لم نجدها نحن الأنصار البيشمركة .

لازال الدخان كان محصورا عند السقف ورائحة صفائح الروث و دخان التنور والخبز الحار والفطائر والبرغل المطبوخ جلها تتدافع فيما بينها ومتشابكة ومشكلة حقيقة قروية صادقة محرومة مما تمتلكه الدولة النفطية العريقة ! ، وليس غريبا من أن نرى القطة تبحث عن الرزق ألا وهو الفأر ! والفأر يبحث عن لقمة من الرزق المقسوم ! والدجاجة تضع بيضتها في زاوية والصرصر يتجول على الحيطان وأتعسهم البرغوث الذي عقدنا ولم يسمح لنا من النوم إلا القليل القليل جدا !

وبعد تناول المقسوم من أيادي أم غفور والشاي الساخن وقادتنا الى كيفية وضع رجلينا في عمق التنور لكي نعوض عما أصابنا من البرد وشدته نتيجة المسيرة الشاقة .

فأما  كاك غفور والذي لا يتركنا إلا ومدحنا في كل صغيرة وكبيرة عند الوالدة .. ولم يكتفي في الوصف والتعامل السليم والعلاقة التي طالت حوالي يومان من الزمن وتناول الخبز والشاي ومبيت ليلة مهلكة والتثقيف الذي تعودنا عليه في جذب المقابل الى المبتغى وكيفية مشاركته في الحديث واعطائه المساحة الكافية للحديث والأصغاء اليه .

غفور لم يتركنا وحيدين ! وعدنا في الصباح الباكر من أن يرافقنا الى مدينة أشنويه / شنؤيئ / شنؤ ، بعد أن أتفق الرفيق مام خضر معه حول أمكانية إيواء البغل ومداراته طيلة فترة الشتاء وحتى حلول فصل الربيع ... غفور الطيب لم يرفض أبدا ما وكل اليه ، مبديا أستعداده القيام برعاية البغل على أكمل وجه والقيام بالواجب ، ومام خضر أعلن استعداده بدفع مبلغ مقابل ذلك لتدبير علف الحيوان البغل .. التبن زائدا الشعير .. لمدة 3-4 أشهر من الشتاء القاسي ، وفعلا هذا ما حدث ولكن لا أعرف فيما بعد ما آل اليه الوضع  وحبذا لو يوضح مام خدر ذلك مشكورا  لكي أكون في الصورة .

 

وفي الصباح الباكر أي في يوم الثامن عشر من كانون الأول من عام 1981 من القرن المنصرم أجرنا سيارة لاندروفر أستوعبت الكل زائدا كاك غفور الذي وعدنا من أن يقودنا ويرشدنا الى المدينة التي أشتقنا اليها من جديد ألا وهي ( شنؤ ). علما كنا قد حلينا ضيفا في فندقها في بداية الشهر الخامس من عام 1980 ، عندما كانت مفرزتنا في طريقها الى كوستة .                                        

فرنسوا حريري ..                                                                                        

-----------------            في الطريق الى أشنوية ومن بيمزورته كان الحديث بخصوص طيبة المسؤول البارزاني والقصد كاك فرنسوا ( فرنسو ) حريري وتعامله السليم مع أهل شنو والقرى المجاورة والتفاعل معهم وتبسيط الأمور وحلحلة الأمور المعقدة ، هذا ما تحدث به غفور القروي الطيب ، بينما نحن نسمع ونستمتع بأشتياق الى حديثه الذي أوصلنا الى شنؤيه ولم نشعر بالرغم من الثلوج الكثيفة المغطية المنطقة برمتها .

ويعد بلوغنا المدينة الطيبة والمفعمة ببساتينها الصيفية والمكسوة شتاءا بمناديل بيضاء وجبالها الجرداء من الأشجار ، إلا ماندر . فأما السكان الطيبين وأسواقهم العامرة والزي الذي يرتدونه الرجال والنساء لهو جميل بشكل وجذاب .. بحيث تشعر من أنك متخلف ! و أخترت المقرات النائية ولم تختار العيش في المدينة الثورية الجميلة .

كانت أجواء المدينة مشحونة سياسيا وعسكريا والحزازيات بين أطراف النزاع والكفاح المسلح قائم بذاته وأصوات الرصاص تسمع في أكثر من منطقة !!! والكل تعود على الحالة العسكرية وربما الهدوء كاد لم يعجب السابلة ، وإذ بسائق السيارة واقفا أمام المقر الرئيسي في المدينة والذي يقع في قلب المدينة .. ترجلوا أنكم في أمان .. هذا هو المقر مؤشرا بيده للحرس .                         

ترجلوا .. قال غفور غفوري .. وصلنا الى المقر .. الحرس استقبلنا برحابة صدر .. أهلا وسهلا ! فخطى غفوري بخطوات وهو واثق من نفسه من كونه يقدم لنا العون في المقر ، ويبدو للعيان من أن غفوري لم تكن زيارته الأولى للمقر .                                                                     

كاك فرنسوا .. جالس في مكتبه في غرفة كبيرة وأمامه كل مستلزمات المكتب من منضدة وكراسي وقرطاسية وهاتف أرضي ، نهض ليستقبلنا بحفاوة وحماوة بالغتان وبأبتسامته الدائمة بعدما أبلغوه من أن مفرزة قادمة من .. ما وراء الجبال الحدودية ، أهلا وسهلا وقواهم ( ماندوونه بن )! وقدمنا غفوري مبديا بأننا بحاجة الى مساعدة موجها كلامه الى القيادي في الحزب الديمقراطي الكوردستاني ( البارتي ) ، كاك فرنسوا هريري ، طالبا منه من أن يسهل لنا الأمور ، وبعد مجاملات بيشمركايتية لطيفة بيننا وأستفسار من قبل كاك فرنسو حول أمور المنطقة وأوضاعها والمقرات وو ....... الخ .

فقال كاك فرنسو .. غفور ... هسع أنت بأمكانك من أن تطلب أي مساعدة على خاطر المفرزة ، أي مفرزتنا ! هنا توسعت شرايين كاك غفور الطيب وأرتاح أكثر فأكثر كلما شاهدنا مندمجين وفرحين فيما بيننا .                                                                                                    

كاك غفور .. أسترخص منا وشكرنا وشكرناه وبقت ذكراه الطيبة عالقة في ذهننا الى هذه اللحظة التعيسة من الزمن !                                                                                   

وداعا غفورنا العزيز .. كانت أول لقاء وآخر لقاء بالنسبة لي ! يالها من التعاسة ما لم تتمكن من اللقاء ثانية بأناس طيبين أمثال غفوري .                                                            

ويبدوا أن كاك فرنسوا .. كان على علم بكل صغيرة وكبيرة ومتابعا جديا لما يحدث وعلاقات مقراتنا في منطقة كوستا مع مقر كاك حميد أفندي ومقر عريف أحمد ومقر كتينا / دكتور سعيد بارزاني ، ولم تكن أسماءنا غريبة عليه .. ويبدوا المفارز التي كنا نستضيفها في مقراتنا في كوستا .. تتحدث بالروح الرياضية التي كنا نتعامل معها كبيشمركة .. وإن اختلفت أحزابنا ومفاهيمنا .. إلا أن علاقاتنا متينة ومبنية على أسس التعاون السليم  وصدق التعامل .

وبعد إجراء اللازم وتناول كؤوس الشاي والحديث المريح .. أصبحت لنا علاقات جديدة وقاعدة جديدة ووجوه طيبة وشخصيات قيادية  تقدم لنا الدعم ، وهنا وفي كل مرحلة وبمرور الأيام كنا نتفاعل مع الجديد ويكبر قاموسنا الأنصاري ونتعلم الجديد ونستفاد ونفيد .. هكذا هي الحيات أخذ وعطاء!!

أودعنا الأخوة الرفاق في مقر شنو .. مستقلين سيارة  لاندروفر أخرى من أشنوية .. الى مدينة نغدة الفسيفسائية المختلطة من كل القوميات الكوردية والتركمانية والفارسية وو ...الخ .

 خورشيد شيره ........                                                               

------------------------    كاك خورشيد شيره وهو الآخر العضو القيادي في الحزب الديمقراطي الكوردستاني ، وفي هذه المرة ليس المقر لنحل عليه ضيوفا .. وأنما ضيوف العائلة الطيبة .. أستقبلونا بكل حفاوة وطيب الخاطر ، مام خدر الوجه الأجتماعي والذي معا كنا نقهر الصعاب ونجيد التعامل والأسلوب الأجتماعي الذي نتعامل به يخلق الأرضية الخصبة ويجد موطيء قدم في العلاقات مع الأحترام المتبادل والذي يعكس الصور الناجحة والواضحة ونضع الكل في الصورة .

هذه المرة في مدينة نغده .. وهي أكبر من أشنوية وشهدت أحداث دامية في القتال بين مختلف الفصائل وحكومة المركز ونشوب القتال الطائفي السيء الصيت وذهبت ضحايا كثيرة ومن كل الأطراف ، لست بصدد سرد تأريخ المدن .. وشعوب المنطقة والحركات المسلحة والتعصب القومي .

أخجلتنا الأخت ( مامز ) أم آزاد وأخيه .. وهي زوجة  كاك خورشيد شيره .. بحيث قامت بالواجب الذي تعودت عليه النساء المناضلات وخاصة نساء البيشمركة وهنا أم آزاد .. قدمت مائدة عامرة من الطعام اللذيذ والشباب آزاد وأخيه وهما لا يفارقونا طيلة الفترة التي قضيناها ضيوفا في البيت الغني بأحترامه وتقديره والعائلة الطيبة ، كان الأهتمام الأكبر بالرفيقة أم صباح ، ومن جميع الجوانب ، كاك خورشيد شيره .. أعادنا الى ذكريات الماضي والسبعينات ومناقشة أمور الثورة وتحاليل سياسية واقتصادية وأجتماعية وأن نكون قد تعلمنا من الماضي اللاخدوم !

 

مشكورين العائلة الطيبة ... وجبة غذاء دسمة وعشاء لايقل عن ذلك وفطور القيمر وعسل والجبن واللبن والخبز الطيب ، علما كانت العائلة تشكو من قيمة إيجار المسكن وربما يقرضون المال لكي يرضون ضيوفهم  ومن كافة الأحزاب والجماعات والأشخاص .. والله أعلم .

شاركونا الجلسة الأخوة الرفاق البيشمركة وكوادر الحزب الديمقراطي الكوردستاني / البارتي كل من كاك شيخ الله ، كاك ملا عزيز ، كاك بارزان ملا خالد ، فمن هنا تحايا طيبة للجميع .

وفي الصباح اليوم التالي أي في 19 / 12 / 1981 . استقلينا لاندروفر أخرى الى أن وصلنا مقرات نوكان الشهيرة !