الساعات الأولى في مواجهة الغازات السامة / النصير مزهر بن مدول ـ أبو هادي

كتب قبلي العديد من الانصار عن الجريمة التي ارتكبها النظام البائد ضد الانصار الشيوعيين في (كَلي زيوة) مقر قاطع بهدينان والتي خلفت وراءها الكثير من المعاناة والآلام ومازالت تأثيراتها على بعض الانصار ممتدة حتى يومنا هذا، وربما لا أستطيع ان اضيف شيئا جديدا للتفاصيل التي كتبوها، لكني سأحاول ان ابين ولو بشكل بسيط مشاعر الانسان الذي اصابه اليأس من النجاة ووقف ينتظر الموت!
في منتصف شهر مايس تقريبا، تحركت مفرزتنا التي رافقت الرفيق الفقيد (ابو عامل) من (كَلي خوى كورك) باتجاه مقر قيادة قاطع بهدينان، كان الجو في ذلك الوقت ينذر بعاصفة ثلجية شديدة، ولهذا السبب اضطر آمر المفرزة النصير (ابو دنيا) ان يعيد الرفيق الفقيد ( رحيم عجينة ) الى المقر لأن وضعه الصحي لا يسمح له ان يواصل الطريق في هذا الجو العاصف.
سلكنا الطريق الذي يقطع (كَلي ره ش) ووصلنا الى (الروبار ) قبل المغرب، وبعد ان تناولنا العشاء هناك بدأنا بالعبور، كان للروبار تيار جارف ومخيف ولا يمكن عبوره الا بواسطة الحبال، وبدون ان اخوض بالمتاعب التي واجهتها هذه المفرزة وما تعرضت له من ساعات قاسية ابتداءً من عبور الروبار حتى الوصول الى مقر ( الحزب الاسلامي )، لكن لابد لي ان ابين أنّ المسافة كلها لا تتجاوز الساعتين في الظروف الاعتيادية، بينما قطعتها مفرزتنا التي ضاعت بالعاصفة بأكثر من ثماني ساعات.
كنا نسير في منطقة هي من أكثر المناطق خطورة من الناحية العسكرية وليس فيها اي ملاذ يمكن اللجوء اليه، ولم يكن امامنا الا الاستمرار في المشي او الموت تحت الثلج الذي غطى جميع معالم الطريق ولم يبق منه اي أثر، لقد نال منا البرد والتعب والجوع كثيرا، وتجمدت اطرافنا وتشتتت اذهاننا وضاعت بوصلتنا، كانت ليلة مرعبة حتى ان الرفيق الراحل (ابو عامل) وصفها: (بانها كانت أصعب من قطار الموت)!
كنّا ننتظر الموت مكفنين بالثلج، وكنّا ننتظر الصدفة التي تخرجنا من هذه السخرية الغاطسة بالألم، وعندما التفت الإله وكشف لنا عن طريق النجاة، ذبحنا خروفا في نهار اليوم التالي في طقس اشبه بطقس الصحوة من الموت!
بعد عدة ايام من المشي وصلنا الى (كَلي زيوة )، ثم استمرت مفرزتنا بالحركة الى ( الفوج الثالث ) في ( كَلي هصبة ) وبعد ذلك ذهبنا الى مدينة ( بامرني ) ومنها تحركنا الى ( كَلي مراني ) حيث مقر الفوج الاول ومنه الى ( كافيا ) ثم عدنا من كافيا الى ( كَلي زيوة ).
وصلنا مرة اخرى الى ( كَلي زيوة) بعد رحلة متعبة استغرقت خمسة عشر يوما، وفي هذا المكان اجتمع عدد كبير من الانصار جاؤوا من قواطع مختلفة حيث يعقد اجتماع المكتب العسكري لعموم الحركة الانصارية، ولأن الانصار لا يضيعون فرصة الاستمتاع في مثل هذه اللقاءات التي لا تتكرر، فابتكروا في مساء الخامس من حزيران فكرة لعبة كرة القدم، ولهذا الغرض خرجنا لترميم الساحة الواقعة امام مقر فصيل الادارة وبعد ان انتهينا من ذلك بدأت اللعبة وبدأ التصفيق والصياح والتشجيع، وبعد ثوان دوت صرخة النصير ( ابو روزا ) التي كانت اقوى من هدير الطائرات! يطلب منا الانتشار، وبسرعة فائقة اختفى فريق كرة القدم واختفى الجمهور!
بدأت الطائرات بقصف القمم المحيطة بالوادي اولا ثم انحدرت لتقصف المقرات، وبعد دقائق قليلة قفلت راجعة، خرجنا من مخابئنا بعد ان توقف القصف مباشرة، فشعرنا وكأننا خرجنا الى عالم آخر، الى وادٍ آخر، فالمكان لا يشبه نفسه، حيث تبدلت الوانه واختلفت كائناته وتعفنت رائحته، ورغم اني لا احب المقرات وقضيت كل سنواتي في الطريق وبين القرى، لكن ( زيوة) بالنسبة لي كانت مكانا مهما للاستراحة بسبب ما تربطني من علاقات حميمة مع اولئك الرفاق الذين يعيشون فيه، لكنه في هذه اللحظة تحول بأشجاره الخضراء وطيوره الملونة وزابه الجميل الى نار تشتعل في العيون والبطون!.
عمّتْ الفوضى في الاتفاق على نوعية الصواريخ والمادة التي قذفتها، ونتيجة لذلك لم يُتخذ القرار والإجراء المناسب الذي يساعدنا في تجنب الاصابة او التخفيف منها، ولكني عندما كنت واقفا بالقرب من النصير (خابور) الذي اصابته شظية في ساقه سمعت الطبيب الذي جاء لمعالجته وهو طبيب من (اوك) قال بأن هذا الغاز هو غاز الخردل.
بعد ساعة او ساعتين كان اغلب الانصار على علم بأن الطائرات قصفتنا بالأسلحة الكيمياوية وبدأت آثار الغاز تظهر على الوجوه والرئتين وفي الاماكن الحساسة من الجسد.
نام البعض منا داخل الغرف ونمت انا مع آخرين على السطح، وبعد منتصف الليل وعلى اثر الم في بطني مصحوبا برغبة في التقيؤ استيقظت، فسمعت اصواتا ضاجة في فصيل ( الاسناد ) ورأيت نارا مشتعلة هناك، نزلت من سطح الغرفة وذهبت باتجاه التلة، وعندما وصلت الى مقر الفصيل شاهدت عددا كبيرا من الأنصار وقد تجمعوا حول النيران وكأنهم على موعد مع الآلهة التي تطرد الشر!، كما رأيت الألم يعصر الارواح ويلهب العيون ويمزق البطون، وكانت على وجوه النصيرات اللواتي لم يتعرضن للإصابة او اصابتهن خفيفة حيرة ووجع أكثر من وجع المصابين، وهنّ لا يملن من تقديم العون والمساعدة في مشهد تراجيدي لا يمنحك اي فرصة لأن تتأمل اللحظة الاخيرة قبل ان ترحل الى مصيرك الاخير!.
في الصباح وقبل ان تأتي الطائرات مرة اخرى وتنقض على ما تبقى، بذل الانصار الاصحاء جهودا مضنية في ايصال المصابين الى القمة حيث مقر ( الدوشكا ) هناك، وكان في استقبالنا دكتور الاسنان النصير (ابو الياس ) يقف على حافة ساقية ويطلب من اي نصير يصل ان يغطس وجهه في الماء الجاري لأكثر من مرة كجزء من العلاج، والعلاج شحيح جدا ولا يتعدى غسل الجسد بالماء وقليل من شوربة العدس والكثير من الصبر وتحمل الآلام، ولكن رغم الشعور بالمصير المجهول ورغم سقوط شجرة البلوط الكبيرة التي مازال سبب سقوطها الى الان غامضا، فأن الابتسامة والنكتة والتعليقات الساخرة التي يتبادلها العميان وغير العميان لم تغب عن وجوه وافواه الانصار وهذا كان الدليل على قدرتنا على المقاومة.