في مرمى التاريخ، سجلت المرأة العراقية هدف آخر!/ مزهر بن مدلول

من يحدّق بالكأس جيدا، فلا بدّ وان يرى نصفه الثاني وقد امتلأ، وهذا سبب كافٍ للتفاؤل بأن ما من قوة تستطيع سلب المستقبل من الجيل الناشئ، وعلى الرغم من انّ المرأة العراقية وعلى مرّ الأزمان تميزت في كافة المجالات (العلمية والأدبية والسياسية) وسجلت حضورا مضيئا في ذاكرة الكفاح الوطني، الاّ انها اليوم اصبحت عنوانا باهرا لصفحة مشرقة من تاريخ مجيد لبلد الحضارات، هذه الصفحة التي هي امتداد لمسيرة نضالية طويلة كانت بحق الركلة التي أهلتنا الى النهائيات!.

عندما يخرج النصف الناعم من المجتمع الخشن الى الشارع محتجا، فهذا يعني ان الأزمة حقيقية وقد وصلت الى درجاتها القصوى وبات من الملح عمل شيء يعيد الطمأنينة الى قلب رسول السلام والأمان (المرأة) الذي تتسارع نبضاته خوفا على حياة ابنائه، لهذا خرجن من قمقمهن، قويات الارادة، عزيزات الكرامة، ملهمات الشباب الثقة والعزيمة على ان لا يتركوا منصات الانتفاضة قبل ان نتحرر من جشع السياسيين المتهافتين على الحقائب، ظهورهن هذا جعل ميادين التظاهر كما لو انها بيوت عائلات وقد انتقلت الى مكان جديد وتزيّنت بالحسنِ والحميمية.

وبشعار (صوت المرأة ثورة وليس عورة)، والذي رفعته بحنجرة لم ترتعش، كسرت المرأة العراقية القيود المفروضة عليها، ووقفت مرفوعة الرأس امام الشوفينية الذكورية، واظهرت قدرة استثنائية على التهكم والسخرية من الاساليب الماكرة للسياسة الملتحية!، وفضحت واربكت حسابات تجار خمسة نجوم ومستثمري المشاريع السياحية التي لا ترى في المرأة الاّ مجرد عرض رخيص لمضاعفة ارباحهم، انها بموقفها هذا، استطاعت ان تقلب المعادلة وتغير الاتجاه وتصنع كرنفالا حقيقيا تعبويا ومفعما بالجمال والأمل والحرية.

لم يرق للذين وضعوا المريض على الأريكة وتركوه من دون علاج، لم يرق لهم منظر الانسان الرقيق والملاك الابيض الذي تعرض ويتعرض الى الظلم المزدوج ان يتقدم صفوف المسعفين ويحتل المركز الاول امام الكاميرات ليصنع معرفة جديدة ويحوّل صوت الاحتجاجات الى جزء من هوية وطنية وثقافة مألوفة، هذا الدور الرائد للمرأة العراقية راح يضغط بقوة هائلة على اعصاب السياسيين الذين اعتبروه بالاضافة الى بعده السياسي تهديدا لقدسية عباءة الـ (سي سيد)!، وانتهاكا لكبرياء مخيلة الذكر المستبدة، لذلك استخدموا جميع الوسائل القمعية وحتى تلك التي لم تخطر ببال (ابليس)! من اجل اسكاتها واخماد صوتها.

لكن الجيل الجديد من النساء، اتخذ قراره الذي لا رجعة فيه ولا تراجع عنه، فهو يرفض سياسة تكميم الأفواه، سواء كانت الأفواه التي تريد أن تأكل او الأفواه التي تريد أن تتكلم، ولا يقبل بالعودة الى التعايش مع الابتذال والنظرة الدونية للنصف الثاني من المجتمع، ولن يرضَ بأن يُحكم بأدوات القرون الوسطى بينما يعيش في الألفية الثالثة، وسوف تواصل المرأة العراقية كفاحها ضد الفساد وصفقات منتصف الليل وكلّ اشكال الاكراه والاجبار والتقييد، وما وجودها اليوم الى جانب الرجل في ساحات التظاهر الاّ شعورا منها بأنّ البلاد أُصيبت بالمنطقة المسؤولة عن الحياة والحركة (النخاع الشوكي) وعليها تقع مسؤولية البحث عن علاج رغم التكلفة الغالية التي دفعتها وتدفعها