مذكرات الفقيد النصير سلام الحيدر (د. أبو تانيـا) 11

فصيل الأعلام المركزي

الفصل الحادي عشر

 إعداد فائز الحيدر

                    فصيل مكتب الأعلام وأرموش السفلى

  قامت اللجنــة الثقافيـة بأحيـاء عـدة فعاليـات ثقافية وأصدرت مجلة دورية ساهم عـدد من الرفــاق في كتابــة مواضيعها الثقافـة والســياسية والطبيـة، كما نظــم فصيلنا دورة للعـب الشطرنج وكان بطلها الرفيق ( أبوزينب ) كالعادة، كما قامت اللجنة عدة أمسيات ثقافية وساهمت شخصيا" بإلقاء محاضرة طبية حول ( دور العامل النفسي في أرتفاع ضغط الدم )، وكذلك أمســية حـول تأريخ أتحاد الطلبـة العام وقد جمعـت مادتهـا من مصـادر حصلت عليها من الأعلام وذكريات وأحاديث من رفاق ساهموا في الأحداث وخاصة أخي ( أبو سـوزان ) الذي عايش ظروف الأتحاد وعمل في سكرتاريته لسنوات طويلة منذ أنتخابات عام / 1967 وحتى السـبعينات، وقد أعجـب الرفيـق أبو ماهـر بهـا وأضاف أليهــا بعض الأسمــاء والتواريــخ وقدمت الأمسيــة في فصائل أخرى وكذلك (  فصيـل دراو ) عندما ذهبنا في زيـارة لهـم مع الرفيــق أبو ماهـر وزهيـر وقضينا ليلــة لطيفة هناك ألتقينا خلالها برفاقنا القدامى .

كان شتاء عام  84 / 1985 باردا" جدا" وقد هطلت الثلوج بغزارة عرقلت الحركة بين مقراتنـا، كانت مهماتنا اليومية هو إزالة الثلوج من أسطح قاعتنا بأستمرار عـدة مرات يوميا"، ولا زلت أتذكـر سقوطي في أحدى المـرات مع سلاحي من سطح القاعة في الثلج الهش والذي أصبح مستواه مع مستوى سطح القاعة، فالثلوج الغزيرة قد سببت متاعب كثيرة للقرويين نتيجة أصابت حيواناتهم، فقد قطعت الطرق وأعاقـت حركة الحيوانات ولم يسـتطيعوا أطعامهـا ، حيث كان القـرويون يقطعـون الأغصان ذات الأوراق الكثيفـة منـذ الخريف ويحفظونها في بالات مرتفعة يغطونها بقطع من النايلون لتكون غذاء لحيواناتهم في فصل الشتاء.

في زيارتنا لهـم شاهدنا موت الكثيـر من الحيوانات الصغيرة في باحة بيوتهم البسيطة المتهاكة لعدم وجود حليب لأرضاعها حيث كانوا يأملون بتربية حيوانات كثيرة في ذلك العام. وبالرغم من تلك الظروف وتوقف الحركة بين المقرات لكثرة الثلوج التي غطت المنطقة إلا أن الرفيق ( أبو تحـريـر ) أصر على الـذهـاب الى قريـة ( آ لكـة ) لشـراء السكاير ورغـم طلب معـظم الرفاق منه بالتريـث لعـدة أيام لخطـورة الطرق إلا أنه أكد بأنه لا يسـتطيع الصبـر بـدون سـكاير لعـدة ساعات وليس لأيام، الرفيق ( أبو ماهـر ) وبأسلوبه اللطيف أراد أن يقوي من عزيمته وأرادته لقطع التدخين فذكر له أنه في أحدى المرات في بغداد تعرض لأزمة قلبية حـادة ونصحه الرفيق ( رحيم عجينة ) حينها وكانوا جالسين قرب النافذة في غرفة في الطابق الثاني بضرورة قطع التدخين، وأضاف كنت سابقا" لا أســتطيع أن أتخيل كيف يمكن للمدخن وأنا شخصيا" أن أقطع التـدخين يوما" ولكن فجأة تناولت علبـة السكائر ورميتها من النافذة ولم أدخن منذ تلك اللحظة.

لم تغير تلك الأحاديث والنصائح من تصميم الرفيق أبو تحرير وذهب صباح اليوم التالي الى القرية التي تقع أسفل موقعنا وتبعــد حوالي الساعـة سيرا" ومرت الساعات الطويلـة وأخذ القلق يسيطر علينا وأراد الرفاق الخروج  للبحث عنه لولا مجيئه في ساعة متأخرة من الليل وهو بمزاج رائع وفرح لأنه أستطاع الحصول على الغنيمة بالرغـم من تعبه، وعند الأسـتفسـار منه عن سـبب تأخـره أخبرنا بأنه لم يجـد السكائر في قريـة ( آ لكـة ) فأضطر الذهاب الى قرية ( ليـلكـان ) وكانت تبعد ثلاث ساعات عن مقرنا.

 في نهايـة شهـر شباط من عام / 1985 بدأ الجو يميل للدفأ وأخذت الشمس تذيب الثلوج المتراكمة تدريجيا" مما أدى الى أرتفاع منسوب المياه في النهر الصغير الذي يفصل بين فصــيلنا ولم نستطع عبوره على الصخور الكثيــرة المتناثرة وسطه كما في السابق وقرر الرفاق بناء جسر ولو صغيـر ولفترة قصيرة يربط بين ضفتي النهــر ، وتزعم فكرة بناء الجسر الرفيق ( أبو آ مال ) وحينها تصور معظم الرفاق أن تحقيق الفكرة بسيط وأن بناءه سوف لا يتطلب ســوى جهــود قليلة ولكن تبين لنا فيما بعــد عكس ذلك، فأختيار الموقع المناسب للجســر أصبح مشكلــة للرفاق وأخذ النقاش منا ساعات طويلة وكل رفيق يبدي فكرته ورأيــه حول المكان الأصلـح وتحول بعد ذلك الى كيفية البناء ومع كل ما دار من حديث بقي القرار الحاســم بيــد الرفيق أبو آمال الى أن تم الأتفاق على المكان الأنسب، وكان المفروض أن يتم بناء الجسر على صخرتين متقابلتين كل واحدة على جهة من النهر وتوضع أعمدة من الخشب على الصخرتين تثبت مع بعضها بالمسامير والقيود الحديدية ثم يوضع فوقهــا الأغصان ويتم تغطيتها بالتراب والحصى الناعـم، كانت الفكرة نظرية فقط ولم يأخــذ بالحسبان قوة التيار وسرعته ولكن أصرار الرفيق أبو آمال حسم الموقف وشرع الرفاق بالعمل، كنا عــدد من الرفاق وبيننا الرفيق أبو ماهر نراقــب عملية البناء والجهود التي يبذلها الرفاق وفي كل ساعة تمضي على العمل نزداد يقينا" بأن جسرا" كهذا لا يمكنه الصمود أمام تيار النهر السريع ولا يمكن لأي رفيق أن يعبر عليه .

  ساهم العديد من الرفاق بوضع الأعمدة وربطها والجميع يضحك وسط النكات والطرائف التي يطلقها الرفيق أبو آمال حول البناء، ترك الرفاق الجسر عصرا" وكان كلعبة أطفال متحركة وسط النهر وعلى أمل أن توضع اللمسات الأخيرة في صباح اليوم التالي، ذهبنا للعمل صباحا" وكلنــا تصميم وتحــدي لأنجاز العمل المتبقي، وكانت المفاجئة .... أين الجسر..... ؟  بحثنا كثيــرا" فلم نجده وبعد جهود كبيرة عثرنا على خشبة واحدة بعيدة عن موقعه صمدت مع سلك حديدي يتأرجح بين الخشبة والماء، أن قوة تيار الماء وسرعته قد جرفت الأخشاب والمسامير كما كان متوقعا" والغريب أن هذه الخشبة بقيت لفترة طويلة في مكانهــا ولم تســتطع قوة التيار من جرفــها وربما أرادت أن تكون ذكرى لنا تذكرنا بمحاولة بناء الجسر الفاشلة وكلما مررنا على النهر نقف ونتذكر النكات والتعليقات التي قيلــت على الجســر المزعـوم وبالرغـم من كل شئ فهي محاولـة للرفاق لأثبات قدرتهم وثباتهم وتحديهم للطبيعة .

 بعد أيام جاء الى المقر أحد القرويين مع ولده يطلب منا مساعدته في بناء جسر على النهر لعـبور حـيواناتهم وأكـد بأنه مع عـدد من رجال القـرية سـيباشرون بالعمل ويحـتاج الى مساعدتنا أفرحنا هذا الخبر وخاصة أنه جاء في الوقت المناسب فنحن بحاجة للجسر أكثر من حاجة القرويين أليه، ذهـبت مع عـدد من الرفاق معهـم لمـد يـد المساعـدة أليهم وكان الشخص المشــرف على بناء الجسـر شـخصية غـريبة فهو ضخم جدا" وذو رأس كبــير وحنك مدبب طويل، فمه خالي من الأسنان ما عدى نابين كبيرين وكأنه من شخصيات أفلام الرعب السينمائية، كان يمازح طيلـة عملية البنـاء رفيقنا ( أبو فيدل ) الذي أبدى قـوة غيـر عادية في رفع الأحجـار الكبيـرة والأخشاب ولقبه بالفيل، كان أبو فيدل يضحك ويلتفت نحونا ويقول ....  بشرفكم رفاق أذا آني فيل لعد هو شنو ؟ ... أكيد ديناصور.

 أستغرقت عملية البناء ساعات قليلة وأصبح الجسر جاهزا" للعبور بطريقة بسيطة وذكية فلدى القرويين خبرة سنوات طويلة، كانوا يضعون الأحجار الكبيرة في بداية الأمر بقدر عرض الجسر المحدد بنائه ويضعون الأخشاب بطول معين مع طبقة من الحجر والتراب لتتماسـك الأخشاب ثم يضعون طبقة ثانية من الأحجار وأخشاب أطول من الأولى وثالثة أطول من الثانية حتى تلتقي مع الأخرى من الجانب الآخر ثم يضعون الطبقة الأخيرة بين طرفي الجسر وتغطى بالأغصان وكمية من التراب

، لم نحتـاج الى الجسـر كثيرا" فبعـد أيام قليلة أخـذت مناسيب الميـاه بالأنخـفاض وبانت الصـخور الكبيـرة فوق سطح الماء وأخذ الرفاق يختصرون طريق الذهاب الى الفصيل الأخر بالقفز فوق هذه الصخور المتناثرة كما كان سابقا".

 مع بداية شهــر آذار تحسن الجـو وأخذت الثلوج بالذوبان وبدأت أوراق الأشجـار بالتفتح وبدأ الرفــاق بجـولات أستطلاعية الى مناطق وأتجـاهات عدة الى ( ليلكان ) والقرى المحيطة بها والى ( دراو العليـا ومناطق أرموش العليا والسفلى والى قرى سبيـكا وسبندارة ) شارك فيها معظم الرفاق من فصـيلنا وفصيلي ( دراو ولولان ). ذهبـت مع الرفاق ( هه زار  ونوبار ، زهير ، أبو صارم ، وأبو حمدان ) الى قــرى ليلـكان وآلـكة لأستطلاع المنطقة و شم الأخبار من الأهالي عن تحركات الجحـوش أضافة للحصول على مواد تموينية.

كان في قرية ( آلكة ) بعض أصدقاء الحزب الذيـن ينقلـون لنا دائما" المعلومات وخاصة ( كاكه حمـد ) والذي بقي قـريب منا لأخر يوم ، قضينا ليلـتنا الأولى بضيافة كاكه حمد وأشترينا منه ومن آخـرين كمية من السـكائر ومعلبات وأصر أحد القـرويين وأسمه ( داود ) والذي كان أحـد الجحوش ولكنه يـودنا كثيرا" بأن يعطي للدكتور بغل ويقصدني بالذات أحترامنا" لي وللخدمات التي قدمتها لأبناء القرية وأخذ يـردد أن  الدكتـور تعبان ولازم يركب الحيوان،  وعلى أمل أرجاعـه لـه في يـوم آخر وفعلا" ركبت البغل أمامهم فرحا" وشاكرا" لهم ولكن بعد أول أنعطاف للجهة الأخرى من القرية بحيث لن يتسنى لداود رؤيتنـا أنزلني الرفاق عنوة ووضعوا حقائبهم والأكياس الثقيلة التي كسرت ظهورهم .

لهذا البغل والعائد لجارنا في القرية قصة طريفة بطلها الرفيق سالم، ففي أحد الأيام وفي نوبة حراسته النهارية شاهد البغل وقد دخل المطبخ، ولا ندري كيف دخله بالرغم من أننا حسبنا ذلك ووضعنا عدة حواجز خشبية قوية على مدخله ليلا" ونهارا" لمنع دخول الحيوانات وأخـذ يلتهم أرغـفة الخبـز المخصصة لوجبة العشاء وقلب أكياس العدس والفاصوليا على الأرض وبــدأ بألتهــام الطحين، أنزعج الرفيق سالم وأراد أن يتناول أي شئ قريب منه ليطرد البغل فلم يجد غير ( القزمة ) فضربه بها وكانت الضربة من القوة بحيث أنغرست في ظهره وفر هاربا" والقزمة لا زالت مغروسة في ظهره وركض سالم بأقصى سرعته نحــو البغـل يحاول أنتزاع القزمة فجعلت البغل يسرع أكثر من الخوف والألم وبصعوبة تمكن سـالم من أنتزاعها ولحسن الحظ لم يشاهده أحد من القرويين،  بعد أيام سمعنا من القرويين بأن البغل قد مات ولا ندري هل مات بسبب القزمة أم بسبب أخر، لم نتكلم عن الموضوع وأنحصر الأمر على بضعـة رفاق وكنا نذكـره خوش قزمة  !! يعني ماكو غير القزمة !  وعندما هــدأ الوضع بعــد فترة أخــذ سالم يذكـر الرفاق بضربة القزمة ويضحك مكشرا" عن أسنانه .

 الهوامش .....

 ـ  الصورة العليا للنصير أبو تانيا مع النصير نوبار في ربيع 1985 .

 ـ الصورة السفلى تبين الأنصار أبو روزا وأم روزا وأبو مكسيم .

 يتبع في الحلقة القادمة