في مطلع شهر آب من عام 1979 وفي الساعة الخامسة عصراً، كنت في (محطة آيرو بورت) انتظر صديقتي لكي اودعها، وكنت انظر الى الناس بذهول والافكار تتلاطم في رأسي، كيف لي ان اترك هذه الحياة واسكن في الجبل، وكيف اعيش مع ناس لا اعرفهم ولا اعرف عاداتهم او لغتهم، وغير ذلك من الاسئلة التي راودتني في تلك الساعة حتى رفعت رأسي ورأيت صديقتي واقفة، فتعانقنا وهي في حالة من الاستغراب، فلم تستوعب فكرة الكفاح المسلح، وضلت تتساءل: (هل يعقل، انّ يوجد في هذا الزمان كفاح مسلح)، وغادرتني وهي تردد اي عاقل اي ترك الحياة الهادئة ويختار حياة قاسية ومتوحشة!؟.
في صباح اليوم آلتالي، التاسع من اب 1979 سافرت الى سوريا، وكان معي الرفاق (ابو جلال وابو عماد وابو الجاسم)، استقبلنا الرفاق واخذونا الى احد الفنادق، الذي يقع بين ملهى ليلي صاخب ومسجد كبير بمنارتين ومكبرات صوت تصم الاذان!، فكانت ليلتنا الاولى (بعد حياة الترف والرخاء في موسكو) عبارة عن صراع مع البعوض الذي لا يستكين، وصخب طبول وموسيقى الملهى، ومكبرات صوت المسجد.
بعد ان تناولنا فطور الصباح، جاء احد الرفاق واخذنا بسيارة الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين الى معسكر معلولة على الحدود السورية اللبنانية بهدف التدريب على السلاح، كما وصل عدد اخر من الرفاق الى هناك حتى اصبح عدد الرفاق القادمين من موسكو 12 رفيقا.
بدأ تدريبنا على مختلف الاسلحة ماعدا المدفعية، كما تدربنا على صناعة المتفجرات المحلية، وقمنا بتمارين عملية في الرماية والتفجير، وكنا أيضاً نمارس الرياضة الصباحية، امّا في المساء وبعد العشاء، فيبدأ النقاش السياسي، عن مصير العراق ودور حزبنا والحركة الوطنية الخ...
وقبل العيد بيوم، ونحن نعيش في اجواء الاستعداد للعودة الى الوطن، واذا بعبوة تنفجر بيد احد الضباط الفلسطينيين وتقتله في الحال، فخيم علينا الحزن على فقدان الرفيق الشاب ابو شكري الذي كان يتهيأ للزواج والذي كان يحذرنا (انتبهوا عند صناعة عبوة متفجرة لأن الخطأ الأول هو الخطأ الأخير)!.
بعد قرابة شهر ونصف الشهر، ذهبنا الى السفارة التركية وحصلنا على فيزة الدخول، ثم ركبنا الباص الى الحدود فوصلنا الى منطقة باب الهوا، ثم اخذنا باصا اخر باتجاه (ديار بكر)، وبعد ذلك اخذونا الى قرية (بنافيا) ومنها ركبنا مع حقائبنا على ظهور الحيوانات لنصل الى قرية (درباس)، وهو الرجل الذي يساعد في ايصال الارزاق الى مقرا حزبنا. ومن هذه القرية وبمحاذاة نهر (ميركلة) الصغير حيث مشينا ما يقرب من السبع ساعات في طرق وعرة ومنحدرات صعبة حتى وصلنا الى (كلي كوماته).
فرح الرفاق بمجيئنا، وبدلا من نصير واحد للحراسة، صار اثنان من اجل ان يتركوا لنا مكانا للنوم في القاعة الضيقة، وقبل ان نغفو اسرّ لي احد الرفاق، بأنّ مفرزة ستذهب غدا لفتح مقر جديد في منطقة (كو سته)، واخبرني ايضا بان المفرزة لا تحمل معها الاّ بندقية واحدة ومسدس عند الرفيق ابو يعقوب وكذلك 180 دينارا، فتساءلت كيف يفتحون مقرا وهم غير مسلحين!، وبأي الوسائل يدافعون عن أنفسهم!؟، فردّ الرفيق قائلا (وهنا لا نملك غير القليل من الجوز ومثله عدس وبرغل، وكذلك كيسين طحين).
نمنا كما يقول الشهيد أبو كريم (حل وشد)، وفي الصباح غسلنا وجوهنا في ماء النهر، ثم تناولنا فطورنا المتكون من ست جوزات ورغيف خبز واستكان شاي، وبهذا الوصف كانت حقيقة بداية مسيرتنا الانصارية في (قاطع بهدنان)، أغلبنا جاء من خارج الوطن، لا نعرف عادات وتقاليد السكان، ولا نعرف لغتهم والتفاهم معهم، ولم نألف الارض الجبلية وتضاريسها، ولكن حبنا لوطننا وشعبنا واخلاصنا لمبادئنا، جعلنا ان نتحمل ونصمد امام جميع الظروف القاسية.
عن دورية(النصير الشيوعي)