من بعيد، من انعطافة النهر الصاعد الى قرية (كوب تبة) المشرفة على سهل اخضر فسيح، من سرب الاشجار المتراصة فوق الجرف الطيني العابق برائحة الماء والعشب، ومن على التلة الرمادية التي تقف فوقها منحوتات حجرية تشبة الجداريات في العهود الموغلة بالقدم، وتحت شمس الذهب الواهنة قبل الغروب، تلوح ثمة بيوت متفرقة طينية واطئة، تحيق بها حقول التبغ والأشجار والمزارع الصغيرة، ومجرى النهر المنساب وئيدا ..

انها بيوت (بولقامش) النابتة، متجذرة في الروح، راقدة وديعة، قرب الماء والظلال.

ينتابني فرح طفولي، يطرد اشباح الحنين للمدن النائية المستحلية،، كأنني أرى بيوتنا البعيدة، أرى ملامح أصدقاء مرابع الملاعب الطفولية،، أرى أمي وطيف وداد التي احبها بخفاء وحذر مشوب بالخجل وعفوية وطهارة وبسرية مطلقة، كانت سري الوحيد الجميل الذي يداعب اخيلة المراهقة..

وكأنني أحلق الان فوق سماء  (بولقامش)، او فوق أطلال قلعتها،، أحمل الواح الطين الاولى، صادحا بالحيران الكردي الحزين وبشجن الاهوار موطن الماء وممالك القمر والمضائف ورائحة البن وحزن المواويل. احمل الى الفقراء أهلي، بشارة فهد الأولى، الأزلية.. ووصايا مام رضائي العادلة والوصايا التي تبيح مشاعية الماء والخبز والخصب والنماء، كأنني مشدود بسرة الارض وضرعها الامومي.

أرى جدائل النهر زرقاء تهبط من الاعالي الى بيوت القرى، وأستنشق رائحة الماء والتراب وروح الانسان. هنا (بولقاميش)، حيث تنصب الهة الحب خيامها كالغجر، والعشاق يختبئون في مغارات القلعة، قلعة العشق المطلة فوق بيوتها الصيفية المقامة على راحة النهر الأزرق الكثيف.

يهبط الزاب بفرسه الشمسي الجموح، يخترق الوادي الضاج بالصخر وبالسيول، منحدرا من خيمة الرب  الى بيوت الرعاة وملتقى العشاق، ينهمر كالضوء لحظة انبثاقه الحاد، نثاره يغسل تعب ألبنات وعرق الفلاحين، رائحة العشب تفيض كالسيل، تخضب شمس النهار بحناء الاشواق. مأوى الفهود، مطارد الغيوم، النهر الاخضر الصاخب الازلي. تتقافز امواجه المرتطمة بالصخر البني الاملس، تلبط اسماكه الصغيرة بين الامواج، تتوارثه الفصول، وتغدق منه مواكب النعوش والمهاجرين والعشاق المستجيرين والمقاتلين.

 تنهض الضفاف الرملية الظامئة واسراب الفراشات، النوارس والاوز البري، الخيول والحقول والازهار البرية كلها تركض خلف موج النهر الابيض المتلقب الساحر. وانا ارتمي بجسدي عند اقدامه المقدسة. النهر الذي يسحرني بصمته وسرمديته. أنه بيت النساك العصي .

أن الحياة هنا عسيرة وقاسية وشبه بدائية، لكن حين تنجلي غمامة الضجر، وتتجلى الروح بفيض التأملات والصفاء والاتحاد بالمكان، تتحول هذه القسوة والاماكن الوعرة الى  طيف فردوسي متخيل او متوهم او قريب لحقيقة الروح. تشعر أنك تخلق الاشياء من العدم، تسمو بها الى مصاف الحقيقة المطلقة، تسمو الى مقامات لا حدود لها، ترى الازهار البرية وقطعان الوعول والنوارس والسحب جزءا من تكوينك في لحظة التأمل والصفاء والخلق.

في (بولقاميش) القرية التي زغردت الام لأبنها المقاتل المتحفز، الذي لايقاوم الموت، وهو في مواجهة الطائرات السمتية، تحت سماء من النار، اعزل الاّ من شجاعته وقناعته وحريته وسلاحه الفردي، امام هذا المشهد، على العالم ان يقف مذهولا، لتلك الام وللابن والرفاق الذين استشهدوا الواحد تلو الاخر.

في (بولقامش)..

تسمع الغناء والاشعار واهازيح البنات الساحرات الجمال. القرية الوحيدة التي لا تسمع فيها صوت المؤذن، فالعلاقة مع الرب منسوجة بخيوط الحب الحريرية، بالعشق العميق، علاقة ليس فيها خوف واستغاثات وذنوب.  

في (بو لقامش). .

لكل الاشياء سحرها الخاص، من الماء المتدفق من ارضها السخية، حتى خبزها وشفاه بناتها الذي يحلم المقاتلون ان ينالوها في غفلة من العائلة..

في بولقاميش، تقف السحب، كي ينزل مطرها مثل حليب الابقار الاسطورية.

هي مرآة..

عتمة الظل، انكسار الشمس، ونشوة الافياء، ومنبت الحكمة

صور الازمنة  

حبال الذكريات المتأرجحة كالغسيل

صراخ الجسد الانثوي

 عطره الذي يسري في اوصالي

احلام مؤبدة

رغبات قتيلة

 رائحة التبغ وندى الحقول وعزلة الموج في العتمة.

تضج (بولقامش) بوصول مفرزة الحزب الى مرابعهم النشوانة. ينطلق الاطفال يحملون اسلحتنا، يداعبهم مام جوامير، ويوزع دريا عليهم الحلوى، وشاخوان يلف سجائره من تبغ القرية، وحاكم وريا يعيد (شدة جمادنيه)، ويخرج مرآته المكسورة،كي يرى خصلات شعره تتأرجح فوق حاجبيه الرفيعين، ومام سعيد يستريح فوق دكة المسجد، هلكوت يضع البي كي سي فوق صخرة قرب ينبوع الماء المتدفق، وآكو يستل ورقة الرسم، يرقب الشمس خلف القمم البعيدة، وهلو يضع سلاحه الناتو الثقيل على جدار الجامع، كي يغسل وجهه من تعب النهار، وعلي سياسي يدخل حوارا  طويل، وبرزان يمضغ سيجارته ويتكئ على باب السيارة التيويوتا الملطخة بالغبار، كأنه في انتظار اجرة ما، وهوشيار يستمع الى أخر الأخبار، ودكتور هوشنك ينزل حقيبته الظهرية الثقيلة، المملوءة بالادوية، وانا اذهب حين يعم المكان العتمة، الى بيت مام جوامير اقضي ليلتي هناك معه في كنف  عائلته الرحيم .

شيرين،، الصبية المكتظة بالرغبات الخجولة، المتلعثمة، المضطربة، الشهية كخبز الصباح، وبكل عنفوانها  تغتسل بماء الفجر  الخدر، تمنح النهر عطرها الانثوي، ويكللها بتويجات الياسمين.

كنت ارقبها في نوبة حراستي تحت ظل النحاس خلف حقول التبغ، جسدها العاري المنتفض المغامر العنيد، ينثر شذى الشهوات، ينهمر التوق كما الوجع، تتدفق نزوات العمر المكبل بالرغبات الموؤدة، يصرخ ذئب الرغبة، يتفجر جوع الشهوات، يصعد مد الاوجاع الى الخاصرة، الى نبض القلب، الى شقهة الاحتضار.

بيوت (بولقامش) تشبه المعابد، اليفة، حنونة، مشرعة الأبواب، تنمح خبزها وماءها واللبن والعسل للعابرين والمقاتلين، ولنا نحن الذين اصبحنا جزءا من نسيجها وروحها وسرها الجميل.

ايها القرى..

يا بولقاميش.

يا نشيدي  الاخير . يا آخر صلواتي .

يا أرقي الليلي العنيد .

أنا الان تخذلني المنافي..

عن دورية النصير الشيوعي )