كنا في آخر تضاريس الجبل. أمامنا سهل متموج بلونين أصفر وأسود. الأصفر لحقول الحنطة والشعير والأسود للأراضي المحروثة. السهل مترام الأطراف ممتد إلى الجنوب ومغطى بألوان نصف قرص الشمس وهي تتهيأ للغروب. والشمس قبل غروبها تحدث كرنفالاً هائلاً من الألوان تضفيه على ألوان حقول الحنطة والشعير المتمددة بلا نهاية. والحقول رغم أنها متروكة منذ زمن طويل بعد وضعها تحت مسمى (مناطق محرمة)، إلا أنها ما زالت تعيد إنتاج نفسها بنفسها في كل موسم وبعيداً عن يد الإنسان. كان لنا في مكان ما من هذا الكرنفال اللوني ثمة مغارة أرضية موضوعة في أجندتنا تحت بند (موقع خاص) أو (سري). بداخلها أغطية وأفرشة وبعض المؤونة البسيطة. قلائل هم الذين يعرفون بمكانها المموه بعوامل الطبيعة نفسها والطريق إليها على شيء من التعقيد، على الأخص في الليل. لكن، ميزة هذا المخبأ السرّي؛ أنه قريب من الشارع العام الرابط بين مدينتي دهوك والموصل. كما هو يتوفر على عين ماء في داخله. صحيح أنها تنضح برائحة الكبريت، لكنه ماء على أي حال.

كان برفقتي زوج وزوجته بعمر الشباب، لعلهما من طلبة الكليات. عليَّ توصيلهما بعد الغروب إلى نقطة محددة من الشارع، ثم أتركهما هناك ليأتي من يقلهما. عمل يخص توصيل واستقبال كائنات خاصة نطلق عليهم تنظيمات الداخل (المدن). ومنذ انطلاقنا من القاعدة، لفت انتباهي خلال الطريق الطويل الذي قطعناه وسط سلاسل الجبال؛ حرص الشاب على عدم الابتعاد عن رفيقته كثيراً. كذلك هي تكاد تكون ملتصقة به في كل مراحل الطريق. وفي الاستراحات بين مفصل وآخر من الطريق يحرصان على مسافة مني ويتحدثان فيما بينهما بهمس. أرى إلى الرموش مسبلة والشفاه ترتجف والدماء تضج في الخدود.. علامات لا تخطئها العين؛ أنا برفقة عاشقين وليس مجرد زوجين.

الطرق الطويلة تصير أطول وأعقد بلا مؤونة الكلام والاثنان لا يكلماني. عدا عن أني أكون مجبراً على محاكاة سيرهم المتمهل والانتظار بين وقت وآخر ليلحقا بي. ما جعلني مكتئباً وأشعر أني تورطت برحلة ما كان عليَّ الإقدام عليها حين جرى تكليفي بها. لكن، وبعد ارتقاءنا آخر سلسلة جبال وإشرافنا على السهل المتمدد أمامنا بمشهده اللوني المذهل، تفتحت في نفسي مغاليق الكآبة وضُخت في عروقي دماءً جديدة أشعرتني على الفور؛ أني سعيد. وما صعّد من منسوب السعادة مشهد الشاب والشابة بعد أن تخلصا من اللباس العسكري داخل الكهف السري وارتديا ملابس المدينة التي كانا يحملانها بحقيبتيهما الظهرية. ظهرت أمامي المدينة التي فارقتها من سنين طويلة وهي بكامل ألوانها وسعاداتها التي افتقدتها. ارتدى الشاب بنطال جينز وقميص بلون حائر بين الأبيض والزهري وارتدت الشابة تنورة عريضة من قماش ملون بورود وألوان زاهية مع قميص أبيض يكاد أن يشف عن سوتيان صدرها العاجي. كما انتعلت هي الأخرى حذاء أديداس كما فعل رفيقها. ظهرا لي بغاية الجمال.

كانت تفصلنا عن الشارع العام بضعة حقول بسنابلها المتطاولة ولدينا ثمة وقت حتى موعد التحرك إلى الشارع العام وانتظار العجلة التي تنقلهما. ولا أدري سبب النعاس الذي داهمني فجأة؛ أهو التعب أم الأحلام التي استفزها مشهد الشاب والشابة وهما بكامل أبهتهما المدينية. كنت بحاجة إلى إغماض العين واستدعاء تلك الأحلام التي لطالما داورتها في تضاريس حياتي الجبلية. لقد غفوت تاركاً العاشقين في زاوية من المغارة يتهامسان.

فززت من غفوتي التي لا ادري كم طالت. تفقدت رفيقيّ رحلتي ولم أجدهما داخل المغارة. قلقت عليهما. كما شعرت بالامتعاض والندم كونهما بمعيتي وعلى مسؤوليتي. لكن أين يكونان والمؤكد أنهما لا يعرفان ما تبقى لهما من طريق وصولاً إلى الشارع. خرجت إلى باب المغارة. أبحث بعيني في الجهات. لا شيء غير سنابل الحقل المتروك القادرة على أن تغطي نصف قامة الإنسان تتماوج بنسيم الغروب. اخترت جهة وسرت في الحقل سيراً حذراً وكل بضع خطوات يقفز من بين ساقي أرنب مذعور. كثيرة هي الأرانب في هذا المكان. وإذا بي بعد مسافة في هذا التيه الأصفر الملون باحمرار لون الغروب الآفل أمام مشهد أكثر إذهالا؛. شاهدت على بعد بضع خطوات أذني أرنب ترتديان حذاء الأديداس مرفوعتان إلى السماء خارج السنابل المتطاولة.. الأذنان يتحركان بحركة بندولية  مصحوبة بلهاث وتأوهات بشرية تكفلت بإحراق آخر ما تبقى لي من زيت الأحلام. نكصت بنفس الحذر إلى الخلف لئلا استفز الأرنبين الغارقين في مشهدهما الفردوسي. عدت إلى باب الكهف مملوءاً بضحك صاخب يريد التعبير عن نفسه وكأني الآن عرفت سبب سعادتي في هذا الغروب الكرنفالي.

عن دورية(النصير الشيوعي )