قامت السلطة الدكتاتورية في العراق في العام 1985 بالهجوم على منطقة كردستان بهدف انهاء مقاومة البيشمركة والانصار الشيوعين. ووفقا لفكرة "اجتثاث النبتة الضارة تكون من الجذور"، وتنفيذا لسياسات النظام الفاشية ضد الكرد والاقليات القومية والدينية في كردستان، شنت السلطة هجوما واسعا على عوائل البيشمركة والانصار في كردستان وتدمير قراهم، وشملت هذه الحملة الهمجية اهالي الانصار في منطقة الفوج الاول (دشت الموصل)، حيث أُجبر المئات من النساء والاطفال على مغادرة بيوتهم وقراهم الى الجبال حيث يتواجد الانصار. 

بدأت تتوافد عوائل الانصار ورفاق التنظيم المحلي الى القرى المحررة منذ اواسط الثمانينات، وسكنوا في قرى مختلفة حول منطقة الفوج. وفي السنتين الاخيرتين انتشروا في مساحات واسعة من (كلي مراني) على بعد بضعة امتار من مقر الفوج الاول بهدف حمايتهم.

لم يكن لي معرفة بالديانة الايزيدية في العراق عندما بدأت حياتي الحزبية في بغداد، وتعرفت  على اول رفيق أيزيدي بعد خروجي من العراق، وهو العزيز حسين كنجي (ابو عمشة)، ولكن لم يشغلنا ابدا في كل لقاءاتنا معه ومع العزيز  خيري القاضي (ابو زكي) موضوع الانتماء الديني فكلنا رفاق الحزب الشيوعي وله ننتمي.

وعند وصولي الى كردستان 1980 وفي السرية المستقلة تعرفت على العديد من الرفاق والانصار الايزيدين، كما تعرفت اكثر على المجتمع الايزيدي أثناء زيارات مفارزنا الى القرى الايزيدية حيث النساء الايزيديات يتحدثن عن بعض عاداتهم وتقاليدهم، ولذلك، وعند استقبالنا للمهجرين من عوائل رفاقنا من الايزيدية والمسيحين، كانت لدينا معرفة لابأس بها بخلفياتهم الثقافية والدينية وعاداتهم المجتمعية، هذه المعرفة ساعدت النصيرات والانصار على توفير اجواء الثقة والاطمئنان لهم.

كانت لدينا مشاعر مختلطة في لقاءنا بهم، مشاعر الغضب على السلطة المستقوية على اناس مسالمين ذنبهم الوحيد ان ابنائهن/ازواجهن، اختاروا مقاومة السلطة ومحاربتها، ومشاعر الالم والتضامن مع نساء خاصة الكبيرات بالسن اللواتي تعرضن لهذا الظلم، واخيرا وليس آخرا مشاعر الاعتزاز والفخر في لقاء نساء مناضلات انجبن وارتبطن بمناضلين اشداء. لقد عكست الامهات والزوجات لنا حبهن ورضاهن على اولادهن وازواجهن الذين يتحملون كل المصاعب في النضال من اجل الشعب ضد الطغمة الحاكمة.

لن أنسى هؤلاء النسوة الرائعات آسيا (ام سربست) المرأة الهادئة الطيبة ذات الصوت الحنون، شيرين (ام فؤاد) الحيوية والتي كانت تخبز حتى في آخر ايام حملها. غالية (ام عمشة) المرأة القوية صاحبة القرار وسريعة البديهية. جوليت (ام نصير) الام الشابة الهادئة المبتسمة دائما رغم وحدتها بعد استشهاد هرمز خوشابا (ابو نصير)، ليلى زوجة النصير ابراهيم دائمة السؤال والرغبة في المعرفة، وزوجة جلال حجي (جمال) والتي كانت تطالب بالسلاح للقتال معنا. لن انسى ضحكات شيرين البازي (ام زيا) وهي تشتم ازلام النظام وتطالب ببندقية لتقاتل معنا (انهم جبناء ولا يعلمون ان افعالهم تزيدنا اصرارا). وكل واحدة من الاخريات لها خصالها المتميزة. بذلت النصيرات جهودا متواضعة في زيارة هؤلاء النسوة والاستماع لارائهن. كان هؤلاء النسوة  يحملن خزينا لا ينضب من الحب والتحمل. كنّ يعبرن  بمواقفهن عن انتمائهن للشيوعية وربما بدون بطاقة العضوية.

كان للاطفال، بنات وابناء الانصار ورفاق التنظيم المحلي مكانة خاصة، حيث كانوا يملأون المقر بالحيوية والفرح. وبمبادرة من نصيرات الفوج، فُتحت صفوف دراسية للأطفال لتعليمهم القراءة والكتابة والحساب وممارسة النشاطات الرياضية، ووفّر رفاق الفوج الاول اللوازم الدراسية من الكراسات والاقلام الملونة، فكان الإقبال عليها رائعا.

اليوم اقف اجلالا ورهبة لذكرى استشهاد هذه الكوكبة من النساء والاطفال الذين تمت تصفيتهم. عوائلنا، عوائل انصارنا ورفاقنا أُبيدوا في عمليات الانفال البشعة في ايلول 1988، بعد ان حاولوا الاستفادة من قرار السلطة في العفو المفخخ  6/9/88.

في النصف الاول من عام 1987 ارسلت السلطات مجموعة 7 ـ8 من الامهات من مدينة القوش بهدف الضغط على ابنائهن الانصار للعودة والتسليم للسلطات، وبقين في مقر الفوج عدة ايام.  ام مخلص ككا كانت  خجولة وتتحدث بصوت واطئ، وكانت معتزة بضفيرتها التي لحسن الحظ لم يقصها الجنود (توفت في طريق العودة لعدم تحملها مشقة الرحلة). وارينة ، بدأت مباشرة بعمل حلويات خاصة لتسعد الانصار الذين يعيشون على العدس، وطرحت احداهن سؤالا على النصيرات وبعتب: لماذا ليس لديكن اطفال؟ متى تحبلن لتزيدوا عدد الشيوعيين؟، كانت ايام قليلة مع هؤلاء النسوة، لكنها مليئة بالمتعة والقصص واللقاءات الحميمية.

عادت الامهات الى القوش من دون ابنائهن، وتكفل انصار الفوج الاول بأيصالهن الى قرية قريبة من المدينة. أما بالنسبة لانسحاب الانصار ورفاق التنظيم المحلي في ايلول 1988 فكان عبر الطرق والامكانيات المختلفة والمتاحة. وبالنسبة لي، فكان الخروج عبر مجمعات سنجار السكنية الخاضعة لسيطرة السلطة، ومنها الى الحدود السورية ومن ثم الى القامشلي. 

في احد الوديان ارتدينا الملابس المدنية ونزلنا الى الموصل، الى بيت الخالة شكرية والدة الشهيد اكرم متي. ومن هناك اتصلنا بعائلتنا لجلب ابنتنا يسار من بغداد، واستخدمنا سيارة العائلة للوصول الى مجمع سنجار، حيث استقبلتنا عائلة الرفيق خليل (ابو خدر)، وكان عددنا 8 رفاق، ومسافة الطريق اكثر من 8 ساعات مشيا على الاقدام، لكي نصل الى نقطة الحدود السورية.

دخلنا بيت خليل (ابو خدر) فاستقبلتنا ادريسة (ام خدر) بكل ترحاب، وخاصة بطفلتنا الصغيرة ذات الاربعة اعوام. هذه العائلة لا يمكن ولا يجوز نسيانها حيث خاطرت بحياتها وحياة اطفالها من اجل انقاذنا، وانقاذ اكثر من 50 نصير ورفيق عبروا من هنا، ولولاها لما كنّا على قيد الحياة. بذل الرفاق الكثير من الجهد في مساعدتنا اثناء المسير، خاصة الرفيق ابو سربست الذي حمل ابنتنا ليعبر بها الاماكن الخطرة حتى وصولنا الى النقطة السورية.

التقيت  بـ إدريسة في المانيا بعد سنوات من وجودنا في الدنمارك. وكانت كما هي، محبة ومتواضعة ومبتسمة. وتعتبر ما فعلته وقدمته لانقاذ الرفاق وتعريض عائلتها للخطر امر طبيعي يقوم به اي انسان يحب شعبه ويخدم مناضليه. انحني اجلالا لشجاعتها ولدورها.  

ابناء (ام خدر) والعديد من عائلتها تعرضوا لهجوم داعش في سنجار عام 2014. اضطروا للهروب مع الاخرين الى جبل سنجار ومن ثم الى دهوك في رحلة محفوفة بالمخاطر لانقاذ حياتهم وحياة اطفالهم. ولكن لم يحالف الحظ الالاف من سكنة سنجار والقرى الايزيدية الاخرى. لقد تعرض الايزيدية على مدار الازمنة لجرائم يندى لها الجبين، وخاصة النساء في 2014، حيث لازال هناك اكثر من 2500 مختطفة ومغيبة  لدى داعش الارهابي في العراق او في سوريا وربما رُحلوا الى بلدان اخرى. ولم نلحظ اهتماما من السلطات الحالية لانقاذهن، كما لم نجد اهتماما بالكشف عن المقابر الجماعية التي تضم رفاة العديد منهم.

ان استذكارنا لاحداث الانفال والانسحاب من كردستان في 1988، لابد ان يكون حافزا للعمل الدؤوب  ورفع الاصوات، لرفع الحيف والظلم الممارس ضد الايزيدين. كما ينبغي التأكيد على انهم جزء من الشعب العراقي واقلية لها الحق في العيش بسلام والعمل على استعادة اراضيهم والعودة الى ديارهم.