تعرفت على الشهيد حامد في قاعدة بشت اشان، وكان قادما من بيروت بعد الاحتلال الإسرائيلي للبنان وانسحاب المقاومة الفلسطينية منها حيث كان احد مقاتليها، وعلى حسب ما اتذكر فقد قال لنا انه انتمى الى المقاومة سنة 1974 في بغداد اولا ثم انتقل الى لبنان بعدها، ولا اعرف شيئا عن انتمائه السياسي في العراق قبل تلك السنة.

وقد وصل الى بشت اشان في خريف 1982 وكان في فصيل بنايته باردة جدا لعدم وجود مدفأة (صوبة) فيه وكان معظم اعضاءه من الرفاق الجدد وتغلبوا على مشكلة التدفئة بالأغطية الكثيرة ولهذا سمي (بفصيل تحت البطانية)، وهناك روايات اخرى عن سبب التسمية مليئة بالطرافة والفكاهة، ولا يبعد كثيرا عنهم كان هناك فصيل اخر سمي بفصيل (الكويت) لانهم كانوا على قمة جبل تشرف على الوادي وبعيدين عن ينابيع الماء، فكانوا يجلبون الماء على البغال من نبع بعيدا نوعما عليهم (كما في الكويت).

وصادف مرة ان ذهب خمسة رفاق من فصيل الادارة مساءا الى فصيل (تحت البطانية) لنقل بعض المؤونة المخصصة اليهم على ظهر بغل وأعتقد أن ذلك كان مع بداية اشتداد البرد خلال شهر كانون الاول من تلك السنة او قبلها, ولم يجدوا حراسة بالخارج وكانوا جميعًا في حيرة بشأن ما يجب القيام به, ثم سمعوا بلبلة وصوت سقوط شيئا ما، وخرج احد الرفاق مرحبا بهم ودخلوا الى الغرفة الكبيرة المضاءة بواسطة ضوء الفانوس واذا بالجميع منكمشين من البرد وبدون مدفأة وغالبيتهم مرضى بالزكام, وبعد ذلك بعدة ايام تم الغاء الفصيلين وتنسيب اعضائها الى فصائل اخرى.

فانتقل الى فصيلنا (فصيل المدفعية) , ثلاثة رفاق احدهم الشهيد حامد، وهناك تعرفنا وارتبطنا بعلاقة صداقة وثيقة، وكان متحمسا جدا للعمل العسكري وللقتال، وكان يشعر بالملل من وجوده في المقر بدون فعاليات عسكرية (بدون طخطخة - كما كان يقول) غير الحراسات الروتينية وتهيئة السلاح، ولم يكن يخفي هذا التذمر، فكان يطالب بالالتحاق بمفارز قتالية قريبة على المدن، وفي نفس الوقت كان شخصية جذابة ومرحة وصاحب بديهية سريعة بالتعليقات والنكات الطريفة، يمكن وصفه بمصطلحات اليوم بان لديه كاريزما ملفتة، وهو حقا هكذا فقد احبه الجميع.

كانت لدينا في هذا الفصيل غرفتين كبيرتين واحدة تنقسم الى قسمين الاول لسكن الرفيقات والثاني مخزن لقنابل المدفعية ولم تكن عندنا المدافع نفسها حيث لم تكن قد وصلت بعد، والغرفة الثانية للرفاق وكان عددنا عشرين، وغرفة صغيرة بين الغرفتين مقرا للمسؤول السياسي والعسكري والاداري للسرية التي تتشكل من ثلاثة فصائل احدها فصيلنا هذا.

وكان وجود هذه القنابل في نفس مكان السكن موضوع نقد وتهكم بالنسبة للشهيد، لما تشكله من خطورة على حياتنا في حالة وقوع اي حادثة او خطأ غير مقصود، فكان يلح على ضرورة نقلها الى مكان اخر بعيد، وكان يدعم حججه بحوادث مؤسفة حدثت معهم خلال الحرب الاهلية في لبنان.

كانت لديه خبرة ممتازة باستعمال الاسلحة الخفيفة مثل الرشاشات والمسدسات وغيرها, وقد لمست ذلك من خلال سرعته في تفكيك واعادة تركيب هذه الاسلحة ومن طريقته في حملها ومرونة يديه واصابعه في تحريك الزناد, رغم اننا لم نشترك سوية في اية معركة, وعندما كنت امتدحه امام الاخرين, كنت اترك التقييم النهائي الى مستقبل الايام عندما سنسمع عن عمليات معينة سيشترك بها مستقبلا, وبقيت واثقا من قدراته القتالية, ولهذا فكان يسألني عن تفاصيل العمل في مفارز الداخل وكيفية ادارتها والكثير من التفاصيل التي لم اكن استطيع الاجابة عليها احيانا لأنها تتضمن اسئلة من خبراته بحرب العصابات بالمدن والتي لم اكن اعرف عنها شيئا.

قبل مأساة بشت اشان بأسبوعين غادرت في طريقي الى الدراسة بالخارج، وقد ودعت جميع الرفاق ومن بينهم الشهيد حامد وتبادلنا غطاء الرأس (العرقچين) ليتذكر احدنا الاخر ومازال عندي عرقچين الشهيد حامد كاثمن ذكرى بالإضافة الى رسائل من شهداء اخرين.

كان استشهاده بطوليا حسب رفاقنا الشهود، فقد كان واحدا من الذين كانوا في مقدمة من تصدى للمجرمين الجلاليين جماعة ناوشيروان، وقد قاتل ببسالة، وبقي حتى اليوم الثاني مع عدد قليل من الرفاق من بينهم الشهيد الخالد ابو سحر (ناصر عواد) ثم واجهوا كمينا بقوة نيران كبيرة لم يتمكنوا من التغلب عليها فاستشهد كلاهما في نفس المكان.

أحاول الان ان أتخيل شابا ثوريا متحمسا جالسًا هناك بملابس البشمة ركة، ويحدق في جذوع الأشجار المشتعلة في المدفأة والمقبض المنحني لسلاحه جنبه، والحلقة المعدنية لحزام البندقية على كتفه في مكانها تومض بالضوء، لكنني أراه ايضا على الأرض خارج فصيل المدفعية في يوم مشمس مع صديقه العزيز العريس الجديد الشهيد ابو بسيم الذي استشهد معه في نفس المعركة، وهم على بعد أمتار قليلة مني والابتسامات على وجوههم الشابة والتي لم تفارقهم يوما ابدا.

سلاما الى ارواح رفاقي شهدائنا الابرار