لأول مرة اشعر بفراق الوطن بعد ان حملت عدد الصفر من طريق الشعب متوجها  صيف عام 1973 نحو مطار بغداد الدولي مغادرا نحو صوفيا ومن هناك الى موسكو عاصمة الاتحاد السوفياتي حاملا معي الزمالة الدراسية في احدى الجامعات السوفياتية نلتها عبر شقيقي من خلال الرفيق الفقيد بهاء الدين نوري عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي انذاك.

استيقظت باكرا في اليوم الثاني من وصولي، كل شيء غريب رغم صفاء الجو الصيفي المنعش، شعرت وكأني في صحراء قاحلة بعد ان ودعت ولأول مرة وطني وأهلي وأصدقائي المقربين، لأول مرة أغادر الوطن وأنا في العقد الثاني من العمر، لكنّ هذا الشعور سرعان ما تبدد بعد ان أُحتضنت من الجالية العراقية ومن رفاقي في رابطة الطلبة العراقيين في موسكو حيث اصبح الكثير منهم اصدقاء مقربين مني. واكثر ما خفف عن كاهلي ثقل الابتعاد هو شعار الرابطة (التفوق العلمي والعودة للوطن) وهـذا ما ربطني بالوطن.

كان علي انهاء الدراسة بتفوق جهد الامكان لأعـــود الى احضان أهلي وأصدقائي، ومرت الأعوام الستة بجهد لم يكن يسيرا على الدوام بين الدراسة الجامعية والنشاط الطلابي خلال رابطة الطلبة العراقيين التي اصبحت عضوا في لجنتها التنفيذية بعد عام من وصولي الى موسكو، ثم عضوا تنفيذيا في مجلس الطلبة بعد حل الرابطة اثر الضغوطات من قبل سلطات البعث على قيادة الحزب الشيوعي العراقي لتجميد المنظمات المهنية والنقابية داخل الوطن وخارجه، لكننا لم نتوقف عن العمل الطلابي، فقمنا بتشكيل مجلس الطلبة العراقيين في الاتحاد السوفياتي تحديا لقرارات وممارسات الدكتاتورية البعثية بحق منظماتنا.

خلال سنوات الدراسة توطدت علاقتي باستاذ مادة الشيوعية العلمية وهو من اصول جورجية كان يتعاطف بشكل كبير مع الشعب الكردي ويمدح القائد الخالد مصطفى البرزاني، كنا نتناقش كثيرا حول القضية الكردية في العراق، لم يكن يشعر بالارتياح عندما اشير الى الطابع العشائري للحركة الكردية وقادتها التاريخيين، كان على دراية كافية بالاوضاع السياسية في العراق وخاصة بعد الهجمة البربرية لنظام البعث ضد القوى الوطنية التقدمية خاصة ضد حزبنا الشيوعي العراقي، ولكن دون ان يفصح عن رأيه علنا لطبيعة العلاقات الدبلوماسية بين العراق والاتحاد السوفياتي انذاك. اقترح علي العمل في احدى المزارع لفترة مقابل ان يضمن لي اكمال الدراسات العليا بعد اكمال الجامعة، شكرته على ذلك وقلت له لن ابقى في الاتحاد السوفياتي وسأجد مكانا اخرا بعد انتهاء دراستي.

اكملت دراستي الجامعية في المكائن الزراعية في حزيران عام 1979 بدرجة امتياز وبعدها مباشرة قدمت طلبا لمنظمة الحزب في موسكو برغبتي التوجه الى كردستان والالتحاق بالحركة الانصارية والتي بدات تظهر بوادرها. بعد فترة استلمت جوابا ((بأنّ حركة الانصار تحتاج في الوقت الحاضر الى  الاطباء والعسكريين، لذا رفض طلبي)).

اصبحت في حيرة من امري، ولكن وبعد التداول مع الاصدقاء في موسكو قررت التوجه الى المغرب برفقة الرفيق عاطف الشيخ الذي اشار الى امكانية الحصول على مساعدة معينة من خلال شقيقه الفنان العزيز سلام الشيخ والذي كان متواجدا في مدينة دار البيضاء المغربية، سارعت الى تعزيز هذا المقترح باستغلال علاقاتي الطيبة اثناء تواجدي في موسكو مع ممثل حزب التقدم والاشتراكية المغربي وطلبت منه ان يزودني برسالة من منظمته الحزبية الى رفاقه في المغرب حول امكانية مساعدتي اثناء تواجدي هناك، وفعلا حصلت على الرسالة المطلوبة.

في منتصف تموز 1979 حزمت حقائبي " في الواقع لم تكن لدي حقائب سوى جواز السفر وشهادتي الجامعية ومرفقاتها بالاضافة الى جيوبي الخالية من اية عملة معدنية كانت ام ورقية "، وفي ليلة السفر قضينا سهرة جميلة جدا مع الاحبة الاعزاء (جاسم الحافظ، لطيف منصور، عادل الالوسي، الفقيد عبد الرضا ياسين السعد، يحيى الشيخ، يحيى الكريدي وعزيز كوريا)، تخللتها بعض المشروبات الروحية وغير الروحية والاغاني الجميلة والطرائف الكثيرة.

توجهنا صباح اليوم الثاني الى مطار شريميتفا الدولي انا وعاطف الشيخ وشقيقه يحيى الشيخ ومازال مفعول سهرة امس ظاهرا على تحركات اجسادنا، ذهب عاطف لجلب قهوة لــ " كسر اخمارية " وتاخر قليلا واثناء ذلك كانوا ينادون على الرحلة المتجهة نحو المغرب دون ان ننتبه لتلك النداءات واقلعت الطائرة ونحن نحتسي القهوة، اشار يحيى الشيخ هازا براسه " اي ... اي ... عاطف يريد يشرب القهوة !!! "، عدنا ثانية الى الاقسام الداخلية واصدقائنا يغطون في نوم عميق.

عن النصير الشيوعي