للحد من نشاط الأغوات ورؤساء العشائر في مناطق بهدينان، الذين شكلوا ظهيرا داعما لقوات النظام الديكتاتوري في حربه الضروس ضد الشعب العراقي، خصوصا في مناطق كردستان، كان لابد من القيام بعمل أنصاري كرسالة لردعهم. في صيف 1984 درست السرية الثالثة التابعة للفوج الثالث عدة مقترحات لهذا الغرض، فأختارت المقترح الذي قدمه احد الانصار الجدد والذي ابدى استعداده لان يكون دليلا للانصار داخل المدينة، والمقترح هو، (تأديب البعض من المرتزقة داخل مدينة دهوك).

تمت دراسة كل التفاصيل المتعلقة بالعملية العسكرية، وتم اختيار الفريق المنفذ لها، الذي ضم مجموعة من الأنصار الشجعان من مختلف مكونات الشعب العراقي، منهم الأنصار: آمر السرية النصير أبو ميسون، النصير أبو كريم (الأشقر)، النصير أبو زياد، النصير جلال والنصير سامر ومعهم أربعة من الأنصار الكرد. كان يتطلب ان تكون العملية الانصارية خاطفة وباستخدام الأسلحة الخفيفة الكلاشينكوف وسلاح RPG-7 الذي تولى مسؤوليته النصير جلال.

بعد لقاء المكتب العسكري للسرية بالمجموعة المختارة من الأنصار وتبليغهم بالمهمة، بانت الفرحة على وجوههم للثقة التي منحت لهم. تم إخبارهم بان العملية لن تكون سهلة، فيها أخطار عديدة بسبب الانتشار الكثيف لأفواج الجحوش الخفيفة في كل مناطق المدينة، اضافة الى منظمة حزب البعث، ومعسكر الجيش ومنظمة الاستخبارات ومديرية الأمن التي تشرف على مركز المدينة، وثمة خطر أمكانية تعرض افراد المفرزة إلى اصابة أحد افرادها مما سيعقيها عند الانسحاب.

 انطلقت المفرزة من قرية لينافا، وفي المساء عبرت قرية بريبهار الى الجانب الثاني من قرى عشائر المزورية. في الصباح الباكر تحركت عبر السلسلة الجبلية المطلة على مدينة دهوك، حيث ظهرت قرى إيزيدية في الجانب الثاني. استغرق المسير أثني عشر ساعة تخللها بعض الاستراحات القصيرة. نفدت مؤن المجموعة بما فيها المياه، لكن ذلك لم يفت في عضدها واستمرت في التقدم لتنفيذ المهمة. بعد اجتياز العديد من الربايا العسكرية بنجاح، تم دخول المدينة عند غروب الشمس، واتخذنا من بعض البيوت المشيدة حديثا، والغير مسكونة، نقاط رصد ومراقبة. تسللت المجموعة عبر أنبوب إسمنتي كبير الحجم يستخدم للمجاري، ليكون نقطة انطلاق لتنفيذ العملية.

لاحظ آمر السرية علامات الإرهاق والجوع على وجوه الأنصار، وبدا واضحا صعوبة تنفيذ العملية بنجاح في ظل الإنهاك والتعب والجوع. بعد التشاور، اقترح أحد الأنصار الكرد الذهاب إلى بيت أحد معارفه القريب وجلب بعض المؤنة. كان في الأمر مخاطرة، لكن امام أهمية إنجاح المهمة، تمت الموافقة على المقترح، وظلت المجموعة في وضع التهيؤ للقتال حتى عاد النصير جالبا معه كمية من العنب وسطل ماء وبعض من الصمون المجمد.  وبعد ان شبع الانصار وارتووا، انتعشت النفوس وبدأ الاستعداد للتنفيذ.

تفاجأ الأنصار بشيء لم يكن في الحسبان ويتعارض مع معلومات استطلاعاتنا السابقة، فالشارع الذي يقع عليه البيت هدف العملية، والواقع في محلة شيلة، تم حفره لمد المجاري فيه، لكن مع ذلك قررنا مواصلة العملية. ساعدت المجموعة النصير أبو زياد لاعتلاء جدار البيت والقفز الى داخله وفتح الباب من الدخل، فدخلت المجموعة الى البيت. أعتلى الأنصار سطح البيت ووجدوا رجلا نائما صعق وهو يرى بنادق الأنصار فوق رأسه، فتوسل لعدم قتله وأخبرهم بأنه مجرد ضيف. داهمت بقية المجموعة غرف الدار. كانت إحداها لابن صاحب الدار والأخرى لآمر سرية الجحوش الذي تم كبسه بعد ان حاول سحب مسدسه، لكن قائد المجموعة نهره قائلا:

ــ لن يكون لديك ما يكفي من الرجولة لتطلق النار على الأنصار الشيوعيين.

سقط المسدس من يده من شدة الخوف وبدأ بالتوسل حتى لا يقتلوه. أمره الأنصار ان يسلم كل ما عنده من أسلحة في البيت. فكانت رشاشتي كلاشينكوف مع مخازنها والطلقات وطبعا مسدسه الشخصي. وواصل التوسل بأن لا يقتلوه، فأخبره الأنصار بأنهم لا يقتلون من يستسلم. وطالبوه وابنه بأن يتوقفوا عن مساندة النظام الديكتاتوري ضد أبناء شعبهم.، فحاول تقبيل الايادي طلبا للرأفة. صاحت أحد النساء: عصاة عرب.

فردّ عليها احد الانصار:

ــ نحن ثوار، أنصار الحزب الشيوعي العراقي.

كل الامر جرى سريعا، وتمت مغادرة الدار بشكل أسرع. غير أن زخات الرصاص بدأت تنهمر فجأة من أسطح الدور القريبة باتجاه ألأنصار. لم يرد الانصار على مصادر النيران حتى لا يؤدي ذلك إلى كشف خط انسحابهم. تحركت إحدى المدرعات لقطع الشارع، فأمر قائد المجموعة، الرفيق جلال لتجهيز قاذف RPG-7 لضربها، فتحرك النصير جلال بسرعة متخذاٌ وضع القتال، غير أن المدرعة غيرت مسارها فجأة صوب محلة بروشكي المجاورة ظنا بأن خط انسحاب الأنصار سيكون من هناك لأنه الأسهل. لم يفكر العدو بأن المجموعة اختارت الطريق الأصعب للانسحاب، وذلك من بين الربايا المحيطة بالمدينة ومن امام المستشفى الجمهوري (مستشفى صدام) وصولا إلى قمة الجبل المطل على قرى الأيزيدية. تمكنت المجموع من الأفلات بمهارة وشجاعة من قبضة العدو بسلام. عند الساعة الثانية ليلا بلغت المجموعة إحدى القرى، وتناول الانصار الشاي الذي كان ألذ ماشربوا بعد نجاح العملية. كان من الصعب المكوث في القرية ليوم آخر رغم الحاجة إلى قسط من الراحة، فتقرر مواصلة المسير نحو المناطق الأمنة. طلب الانصار سيارة من أحد أبناء القرية الذي أبدى استعداده لنقل الانصار الى أي مكان يطلبون. تساءل الرجل القروي إن كانت المجموعة حقا قد جاءت من دهوك لتنفيذ عملية، فعرض الأنصار له غنائم الاسلحة التي حصلوا عليا، فهلل الرجل فرحا مطالبا بالقيام بالمزيد من العمليات داخل المدن. بعد ساعتين وصلت المجموعة إلى القرى المزورية، وتناولوا فطورهم هناك. دهش أبناء القرية حين سمعوا بان الانصار نفذوا عمليتهم داخل مدينة دهوك وغنموا سلاحا، واندهشوا أكثر حين سمعوا الأنصار يتحدثون العربية فتأكدوا بأنهم من أنصار الحزب الشيوعي العراقي.

عند المساء واصلت المفرزة طريقها نحو منطقة عملها، لتصل الى قرية صندور، حيث تم الاحتفاء بالإنجاز الناجح ونحر خروف احتفالا بنجاح العملية.

تركت هذه العملية الانصارية الناجحة في قلب مدينة دهوك صدى واسعا لدى أبناء المدينة والمناطق المحيطة بها، فكانت دليلا على شجاعة وبسالة الأنصار الشيوعيين، وحسن تخطيطهم، وقدرتهم على تنفيذ عمليات خاطفة ونوعية في عمق المناطق الخاضعة للنظام الديكتاتوري. جاءت العملية الانصارية ضربة موجعة لهيبة النظام الديكتاتوري ومرتزقته من الجحوش في عقر دارهم، وعرضتهم الى السخرية واستهزاء المواطنين: (دخلوا عليكم لغرف نومكم). وظل الناس يتناقلون أصداء العملية لوقت طويل.

النصير الشيوعي