في صبيحة يومٍ مشمس وبارد توجهنا بصحبة دليل من الرفاق لا أتذكر اسمه، قادنا بين تضاريس وعرة لنصل مع الغروب إلى قرية في بطن وادي عميق حيث التقينا برفاق سرية الشهيد -احمد-، وجدناهم متجمعين أمام جامعها الصغير وهو مكان تجمع سرايا الأنصار وسرايا الأحزاب الكردية الجوالة في المنطقة حيث يتم توزيع المقاتلين من قبل المختار على بيوت القرية لتناول وجبة العشاء ومن ثم المبيت في مسجد القرية أو في بيوتها. كنتُ مبهورة تماما بما يدور حولي، الطبيعة بوعورة تضاريسها و قسوتها، والرفاق في لغتهم التي لا افهم منها إلا ما تجود به ذاكرتي من دروس اللغة الكردية في مرحلة دراستي الإعدادية.

اتفقنا أنا وزوجي على إخفاء وضعنا الاجتماعي، فنزعت خاتم الزواج الذهبي ووضعته خلسةً بكف زوجي الذي وضعه في جيب سرواله. وزّعنا مختار القرية على بيوتها، فوجدتني بصحبة رفيقين التقي بهما لأول مرة. عند حلول المساء عرفت أننا سنقضي ليلتنا في نفس البيت، فسألت رفيقيّ عن مسؤول المفرزة وأخبرته بأنني أريد المبيت مع زوجي. فأعتذر وغاب ليعود بصحبة زوجي وقال:

- تفضلي رفيقتي.. وابتسامة خفيفة على وجهه، تبددَ خوفي و توجسي من فكرة المبيت مع رفاق لا أعرفهم.

في فجر اليوم التالي قُدِمتْ وجبة الإفطار المكونة من جبن غريب الشكل يشبه كومة أحجار صغيرة بيضاء مرقطة يشوب حوافها لون أزرق، فالتفتُ نحو زوجي واستفهمت عنه بالإشارات فَهَزَّ رأسه بوجه باسم ورسم بيده علامة كأنه يقول لذيذ جدا، فبسطت قطعة خبز حارة ووضعت قطع من الجبن ورفعته إلى فمي وما أن لامس لساني، هاجمتني رائحته العفنة، فلم أتمالك نفسي، هرعت راكضة خارج الغرفة وتقيأت وأنا أسمع ضحكات زوجي والرفاق وأهل البيت.

ودعنا أهل البيت، وأمام جامع القرية أخبرنا مسؤول المفرزة بتكليف رفاقٍ ثلاثة سيرافقوننا حتى مقر الفوج الأول، وهم الرفيق أبو جاكلين، قصير القامة، ممتلئ، أشقر، بعينين زرقاوين، دمث الأخلاق كان يتحدث كثيرا عن زوجته ويلهج باسم طفلته ويخرج بين الحين والحين صورتها من محفظته، والرفيق سلمان ممشوق القامة، هادئ يميل إلى الصمت عكس "أبو جاكلين" أما الثالث الملتحي بنظراته الزائغة فلم أتذكر اسمه. سرنا في طرق وعرة جدا ودروب جبلية ضيقة بوديان بكر لم تشق فيها طرق مبلطة ولا تصلها سيارة. بتنا ليلتنا الأولى في قرية كأنها منحوتة في قلب الجبل، وفي اليوم التالي وصلنا قرية ترتبط بشبكة مواصلات وتصلها السيارات من دهوك. في الاستراحة أخبرنا الرفيق سلمان أن لديه موعداً مع والدته وكذلك الرفيق الملتحي. الأنصار من تلك المناطق كان لديهم فرصة اللقاء بعوائلهم والتمتع بدفء العائلة وحميميتها، عكسنا نحن الأنصار القادمين من مناطق الجنوب والوسط وبغداد. رجع الرفيق سلمان لوحده والآخر لم يعد سألناه عنه فقال ضاحكاً:

- لقد مات!

فعرفنا أنه سلمَ نفسه للسلطة.

واصلنا المسير إلى مقر الفوج الأول، وهناك التقيت بالنصيرة (أم عصام) لأول مرة كما شاهدت الكثير من العوائل اليزيدية التي هجرتها السلطة لتشكل ضغطا على الأزواج والأبناء من الأنصار، ستقع هذه العوائل في الاسر عند انتهاء الحرب العراقية الايرانية في ٨-٨-١٩٨٨، حيث الجيش العائد من الجبهات والذي قصف مناطق الثوار بالأسلحة الكيمياوية زحف نحو مقرات رفاق الفوج الأول، الذين وجدوا أنفسهم محاصرين من كل الجهات. انسحب الأنصار بينما استسلمت العوائل لقوات الجيش بقرار حزبي، فضاعت واصبح مصيرها مجهولا حتى كتابة هذه السطور.

بقينا أكثر من أسبوع ننتظر في الفوج الأول الواقع في عمق وادي مراني، المظلل بأشجار الصفصاف والجوز والحور فنشأت لي علاقة طيبة مع عوائل الأنصار اليزيدية اذكر منهم عائلة الرفيق أبو داود وزوجته ذات الوجه الملائكي والتي ستفارق الحياة في السنة التالية بسبب عسر أثناء الولادة، لتترك ثمانية أطفال، وكانت قد أخبرتني أن ولديها الكبيران - مقياس وشفيع- يعيشان في مدينة كانكوفا في الاتحاد السوفيتي في بيوت مخصصة لأطفال الرفاق من قادة الأحزاب الشيوعية في العالم، مما هوَنَ عليّ شدة شعوري بالذنب لترك ولدي "كفاح" لدى أهلي في "الديوانية" مدينتي الجنوبية.