- انقل لك خبر رحيل رفيقنا وصديقنا المشترك

(أبو ميلاد)....

آه كم كان نحساً يوم الأربعاء الذي مضى حين تلفن لي صديق لي لينقل لي خبراً اوجع قلبي يحكي عن رحيل رفيقي وصديقي (أبو ميلاد).

- كيف حدث ذلك؟

وسط ذهول الصدمة حاولت الوصول لزمن ومكان وتفاصيل الخبر.

ورغم إلحاحي في فك لغز رحيل صاحبي لم اصل الى نتيجة. وحسب حديث صديقي الذي كلمني فأن الأخبار تتضارب  حول سبب موت ورحيل أبو ميلاد، فهناك من يظن بأنه قد وجد ميتاً في غرفة سكنه التي يستأجرها في ضواحي موسكو، وآخر يظن بأن أعداء له قد قتلوه غيلة، ورواية اخرى تقول بأنه قد مات غرقاً أثناء السباحة في نهر موسكو.

وضعت في حيرتي عن رواية غرق صاحبي اثناء السباحة، خصوصاً وهو الذي يجيدها.

وخطرت لي فكرة الاتصال عبر التلفون بصديق كان قد قدم للتو الى ستوكهولم قادماً من موسكو، للسؤال عن اخبار أبو ميلاد. صديقنا الذي كلمته أكد لي صحة خبر غرق أبو ميلاد في نهر موسكو، وانه قد التقاه قبل يومين من حادثة غرقه، في ساحة بوشكين التي صارت مكاناً يومياً لتجمع ولقاء العراقيين في موسكو، من الباحثين عن ملاذ، او خلاص باللجوء للعيش في بلاد تؤمن لهم مستلزمات العيش.

من أول برهة تلتقيه تشعر بطيبته وقدرته الفائقة على اضفاء اجواء الفرح والحماس على الحديث والموضوع، وعبر قدرة واضحة على التعبير باستخدام الفكاهة والسخرية والجرش الذي لا يخدش، مع اجادة استذكار النكتة والطرفة وخلقها احياناً وبروحية النقد اللاذع الفكاهي وعبر الاستعانة في احيان كثيرة بحركة يديه وعضلات وقسمات وجهه، وحتى أحياناً بأجزاء من جسده في حالة تطلبت ذلك الطرفة أو النكتة والحكاية.

حين تتطلع في ملامح وجهه لا يمكنك أن تخمن نسبه الى أي مدينة عراقية سوى مدينة (الثورة) في بغداد. اسمر البشرة خشن الملامح و (شروكي) حسب تصنيف (زناكيل) بغداد، تعلو وجهه ابتسامة طبعت محياه وصارت لا تفارقه في حله وترحاله. وحين تحدثه لا تحتاج لطلاسم لتعرف قدر انسانيته وطيبته والجرأة في الموقف والرأي.

في حياته امتهن مهناً كثيرة، وظل يعمل لفترات طويلة مساعداً لسائق سيارة في مدينة الثورة في بغداد، ولم يكن يزعل أو يغضب حين يستذكر صديق ما عمله السابق (سكن سيارة) وبقصد المزاح.

حين طرقت السياسة بابه أوائل سبعينات القرن الماضي  حين كان وقتها صبياً لم تنبت له شارب بعد، أو حينما دخل هو من بابها الضيق، لم يكن زاده فائض القيمة، ولا كتاب (انتي دوهرينغ)، أو بيان ماركس، بل جوعه وحرمانه وكل ذلك الجور والعذاب واللا عدالة التي عايشها هو وأهله وعائلته وأجداده وكل عشيرته، وهو الدافع الذي أوصله منطقياً للبحث عن ملاذ للخلاص، وقد وجده في الشيوعية والحزب الشيوعي العراقي، وهكذا  دخلت الشيوعية في رأسه، وحسب تعبيره ( طبت براسي ولزكت لزكة جونسون).

وحينما (افترت) الدنيا وانفرط عقد المسبحة وتطشرت جبهة الشيوعيين مع نظام البعث أواخر 1978، هرب تاركاً مدينته الثورة التي تعلق بها، مودعاً اصدقائه وكل الذكريات. والذي جرى له لم يختلف كثيراً عن الذي جرى للآلاف من ربعه ورفاقه في بغداد وفي غيرها من مدن العراق.

لم يدم المقام به طويلاً في بلاد الغربة، اذ عاد متلهفاً طافحاً بأحلام اللقاء بتراب وطنه ثانية، ملتحقاً بحركة الأنصار الشيوعيين العراقيين في جبال كوردستان العراق.

غريبة وموحشة بدت له جبال كوردستان وثلوجها ومصاعب العيش، لكنه درب نفسه على التعلق بها وحبها والهيام بينابيع الماء الصافية في سفوحها، وبزرقة السماء الصافية التي تكاد تلامس قمم الجبال فيها، وصارت الأشجار والصخور أليفة له، منسجماً مع طبائع الفلاحين في القرى وطقوسهم الجميلة.

كان (أبو ميلاد) شيوعياً عبر الاختيار الروحي والمعنوي والحياتي لما يتطلبه ذلك من موقف وفعل، بعيداً عن النزوات العاطفية. وقد ارتبط هذا الموقف بالنسبة له مع البطولة والمقاومة والاستبسال، وليس في الفعل فقط، بل عبر الانسجام مع عميق احاسيسه وروحه، والاستعداد دون كلل للفداء والتضحية من أجل ما آمن به، ودون منة أو طلب نياشين.

لقد كان حلمه واقعياً كحلته رومانسية الشاب الباحث عن العدالة والحرية، وبقناعة الثائر في حق شعبه على العيش كما باقي البشر، وفي حق فلاحي القرى في نيل حقوقهم والعيش بسلام بعيداً عن فوهات البنادق ومدافع الحكام وقصف طائراتهم.

وحين أكتب عن (أبو ميلاد) فأني أعرف قضية واحدة تشدني للكتابة عنه وعن خياره والطريق الذي اختطه كمعدم وكادح وفقير يناضل من أجل خلاص أهله وناسه من سلطة دموية قاهرة لا يمكن ازاحتها عبر (كش ملك) ولا عبر (البخور والشموع)، بل عبر التصدي العملي الكفاحي المسلح وتبني مطالب الناس ومصالحهم، وقد أثبت ذلك ليس في المنازلات التي كان له فيه بصمات ومواقف لا تنسى، بل عبر حب الفلاحين في القرى والقصبات والجبال، والتعلم من عاداتهم وتقاليدهم، وحفظ وترديد أغانيهم وأهازيجهم الشعبية الجميلة.

لقد أصبح هذا الشاب العربي الأسمر القادم من عذابات بغداد ومنطقة (الثورة داخل)، ومن أحزان أهالي (سوق مريدي)، حديث البيوت وفي كل جلسات شرب الشاي في القرى التي تزورها مفرزته ورفاقه.

وكان يحفظ  ويردد عشرات الأغاني الكوردية الفولكلورية، خصوصاً حين يشتد رقص الجوقة والدبكة.

لم يكن يردد الأغاني الشعبية الكوردية فقط بل كان يتقن ألحانها ويؤديها بشكل رائع وشبيه بأداء المغنين الأكراد...أظن أن الفلاحين في قرى سهل أربيل وفي مناطق روست وكويسنجق وراوندوز، سيظلوا يتذكرون لزمن طويل اخباره وأغانيه الشعبية العذبة التي كان يؤديها مع جوقة البيشمركه الدابكين والراقصين، وهو يرقص فرحاً ملوحاً بمنديله والعرق يتصبب من جبهته وكل قسمات وجهه، والبندقية معلقة على كتفه مع صف الرصاص والشواجير التي تحزم ظهره.

 احبه الفلاحون الكورد بصدق، ناهيك عن رفاقه المقاتلين، وحتى بعض البيشمركه من أحزاب أخرى.

اذ كان قد تعلم لغتهم وصار يتقنها، وهو ما قربه من الناس في القرى، اذ كان وجوده بينهم مبعث فخر لهم يتباهون به ويشعرهم بعدالة قضيتهم وحقوقهم القومية، وتضامن اهل بغداد والجنوب معهم.

في شخص (أبو ميلاد) كانت الصورة تعني الوجه الآخر لهم، اذ ان العربي هنا ليس فقط سائق الدبابة ورامي المدفع والطيار الظالم الذي يحرق سنابل قمح القرى، بل هو المقاتل الشهم والنبيل الذي ادرك ان قضيته وقضيتهم في جبهة واحدة حيث  يتشابه العدو والمصير والحلم.

خريف عام 1988 وحينما بدأت حملات أنفال نظام العصابة الصدامي سيئة الصيت التجأ أبو ميلاد مع اللآلاف من الناس والمقاتلين البيشمركه صوب الوديان المحاذية للحدود العراقية مع ايران وتركيا. ومن هناك غادر مضطراً وحزينا تلك القرى والجبال التي أحبها، وحط به الرحال في جمهورية تركمانيا أولاً، ثم غادرها للعيش والإقامة والدراسة في منطقة القفقاس وبالتحديد في مدينة شاعر روسيا العظيم ليرمانتوف (بيتاكورس)، ويعني اسمها الجبال الخمسة لعل الاسم سيذكره بالجبال وتفاصيلها. في هذه المدينة شرع يدرس آداب اللغة الانكليزية، وكان هذا حلماً يراوده في دراسة الأدب لولعه بالشعر.

في هذه المدينة يبدأ فصل محزن وقاس من حياته، وصار يبدو وكأنه يريد الثأر من ماضيه ومن كل الخيبات التي مرت في قطار ايامه وأوجعته بالطعنات، وعبر اللجوء للخمرة والشراب والدخان، وبإدمان مفرط ودون الانتباه لصحته. وبسبب ظروفه الصعبة هناك غادر (بيتاكورس) تاركاً دراسته واتجه للعيش في مدينة موسكو. وفي العاصمة الروسية موسكو تعقدت ظروف أبو ميلاد حيث طالت لحيته وصار لا يهتم كثيراً لحاله وصحته..رغم ظروفه الصعبة هناك يشهد الكثير من العراقيين على العون الذي قدمه لهم في مساعدتهم للسفر من روسيا الى بلدان اللجوء..

مضت سنين طويلة لكني ما زلت أتذكر تفاصيل تلك الليلة الكالحة السواد التي جمعتني معه في مفرزة واحدة في 26 نيسان 1987، عند قمة الهضبة المطلة على شارع أربيل- كويسنجق، لحظة مزقت جسده شظايا وقنابل الألغام بعد العملية العسكرية الفاشلة لاقتحام ربية الجحوش التي تطل على الشارع. كانت جروح أبو ميلاد بليغة وكان ينزف كثيرا في تلك الليلة فقدنا شهيدين بطلين هما لطيف احمد (جيفارا) و عبد الرحمن حمد أمين (كيلان). كان حزن أبو ميلاد شديداً لعدم نجاحنا في اقتحام الربيئة، وبسبب فقدان رفيقيه كيلان وجيفارا، وكانت تربطه بالشهيد جيفارا أواصر صداقة رفاقية كبيرة.

في اللحظات التي بدأت الألغام تتفجر وسط أصوات الرصاص الذي انهمر من الربيئة، أصابت الرصاصات والألغام جسد ابو ميلاد ورفاقه، والذين اضطروا للرجوع منسحبين.

فوق قمة الهضبة حاول الرفيق ملازم هزار آمر المفرزة لم شمل رفاق المفرزة وسط قيامة الرصاص، وبعد أن لذنا محتمين ببعض من صخور الهضبة كمتاريس.

اتذكر صرخات ألم ووجع أبو ميلاد وهو ينادي باسمي زهو يقترب مني....

- رياض..رياض ...رياض

لقد حملته هناك بعض الوقت واصطبغ قميصي وشروالي بدمه، وحين فتحنا أزرار قميصه لوقف النزيف، وجدنا عدد من نشرات الحزب وقد اخترقتها الشظايا واصطبغت بدمه.

في مكان آمن أودع الرفاق ابو ميلاد  وقد أشرف الرفاق على علاجه ومداواة جروحه.

يقول صاحبي (وهو ايضا من انصار الجبل الشيوعيين) الذي التقى به عند بائع لفات فلافل عراقية  في ساحة (بوشكين) في موسكو قبل يومين من فاجعة غرقه في نهر موسكو.

- كان أشعث الشعر وقد طالت لحيته كثيراً وصارت سحنته حزينة جداً، وصرت لا تعرف ملامحه وقد تغيرت بسبب التعب والوجع. وصرت أخمن في أن أبو ميلاد سيرحل قريبا !!!

قد يختلف الزمن وقد تختلف الصورة والحدث، ولكن المصير والوجع يشبهان ملامح المقهورين..

هو نفس الوجع ونفس العذاب الذي يتجلى في رحيل أبو ميلاد غرقاً في نهر موسكو، وفي رحيل شمران الياسري (أبو كاطع) في ليلة حزينة وفي حادث سيارة عند الحدود التشيكية الهنغارية، وفي موت هاشم صاحب وأبو عليوي وعلاء العاني، من كمد الأيام وجور المنافي والغربة، وأيضاً حين ينتحر ابراهيم زاير (أبو قيس) في شقة من بيوت بيروت. وهو نفس الوجع أيضاً حين يدهس قطار مرعب في تشيكوسلوفاكيا وفي أيام أعياد الميلاد صديقي ورفيقي العراقي ابن مدينة الكاظمية، وحين يموت شاب عراقي آخر منتحراً في مدينة صوفيا البلغارية برمي نفسه من طابق شاهق في بناية القسم الداخلي الذي يسكنه. المشهد يبقى واحداً، وان تعددت الصور والقصص والحوادث وأخبار الموت والرحيل..

مشهد العراقي المعذب والمصاب بمرض مدمن اسمه الشوق والحنين للوطن البعيد العراق.

....

الموضوع كان قد نشر منذ سنوات في جريدة المجرشة التي كانت تصدر من لندن ويشرف على تحريرها الفنان فيصل لعيبي...

صورة الرفيق أبو ميلاد معارة ومنقولة من مواقع الفيسبوك والتواصل الاجتماعي.