كتب العديد من الأنصار وآخرهم الرفيق أبو نسرين عن تلك الجريمة الكبرى التي تركت آثارها الجسدية والنفسية حتى يومنا هذا، فمشاهدها المأساوية وهواجسها السوداء وعلى الرغم من المسافة الزمنية الطويلة مازالت محفورة في الذاكرة حتى أصبحت جزء من تاريخنا الحزين. 

في منتصف شهر مايس تقريبا، تحركت مفرزتنا التي رافقت الفقيد (أبو عامل) من (كَلي خوى كورك) بإتجاه مقر قيادة قاطع بهدينان. كان الجو ينذر بعاصفة ثلجية، لذلك اضطر آمر المفرزة أن يعيد الفقيد (رحيم عجينة) الى المقر بسبب وضعه الصحي.

سلكنا الطريق الذي يقطع (كَلي ره ش) ومعناه (الوادي المظلم)، ليس فقط لعمقه وكثافة أشجاره وصخوره، وانما لما يسببه من تدهور في المزاج لمجرد المرور به. 

وصلنا الى (روبار عادل بك) قبل الغروب، وبعد أن تناولنا عشاء المعلبات بدأنا بالعبور، كان تيار النهر جارفا ومخيفا ولا يمكن عبوره الاّ بالحبال، وبدون أن أخوض بالمتاعب التي واجهتنا أثناء العبور، لابد أن أقول بأن المسافة من النهر حتى قرية (زيتا) لا تتجاوز الساعتين في الظروف الاعتيادية، بينما استغرقت منّا أكثر من ثمان ساعات.

كنا نسير في منطقة خطرة، وليس فيها ملاذات آمنة يمكن اللجوء إليها، لذلك علينا ان نواصل المشي قبل أن نموت تحت الثلج الذي غطى جميع معالم الطريق ولم يبق منه أي أثر، فنال منّا التعب والجوع، وتجمدت الأطراف، وتشتتت الأذهان، وغاص البرد في العظام، فكانت ليلة مرعبة جعلت الرفيق أبو عامل أن يصفها بانها (أصعب من قطار الموت)!. 

بعد أن قطعنا نصف المسافة والطريق كله صعودا، اشتدت الريح. وقبل أن نصل بساعة، هوت على رؤوسنا العاصفة. كلّ شيء انقلب على رأسه، كما لو أنّ السماء ضربها زلزال!. فبدأ الموت يغرز أظافره في أقدامنا كالمسامير، ويتسلل ببطء الى الركبتين، ويصعد الى الرأس والعيون!.

تجمعنا حول صخرة قاومت عوامل الإنقراض!، فأضطرب البندول، وفقدنا المفاتيح والعلامات. عند ذاك، وفي تلك اللحظة العجيبة، تمنيت أن أتخلى عن قدميَّ. أخلعهما وأطمرهما بين حجرين!. وتمنيت أيضا، لو أعلم: أية صورة تتأرجح أمام عيني النصير أبو الزوز!. وما الذي يدندن به أبو حمدان عندما تغادر رأسه الذكريات!، وماهي خلاصة تأملات أبو اصطيف السريالية، وعذرا للآخرين، فهذه تجربة موت جديدة من تجارب سفرنا الدامي!. 

لم يبقَ أمامنا الاّ ساعة واحدة وتسقط رؤوسنا في النوم الأبدي، لكنّ يقظة وشجاعة النصير أبو دنيا، دفعته الى أن يقتحم العاصفة، ويعود بأحد القرويين (الدليل) قبل ان نصل الى آخر الزمان. 

تقدمنا القروي، جسدهُ يرتعش من الخوف والبرد، وعلى وجهه ملامح استغراب ودهشة، وفي رأسهِ سؤال يقلقه قلقا شديدا: هل هؤلاء وحوش ناطقة.. أم ثوار.. أم قراصنة يبحثون عن كنز!؟، فأجاب النصير كريم كطافة على السؤال وقال: نحن كل ذلك، وحوشا وثوارا وقراصنة!!.

بعد عدة أيام من المشي وصلنا الى (كَلي زيوة)، ثم استمرت مفرزتنا بالحركة الى (الفوج الثالث) في (كَلي هصبة)، ثم الى مدينة (بامرني)، ومنها تحركنا الى (كَلي مراني) حيث مقر الفوج الأول، ومنه الى (كافيا)، ثم عدنا الى (زيوة) مرة أخرى .

وصلنا بعد خمسة عشر يوما من التجوال بين (كَارة ومتين) الى (زيوة)، القرية التي تنام بين النهر والجبل وبيوتها مموهة تحت الأشجار وأطرافها تحاذي نهر الزاب، تجمع فيها عدد كبير من الأنصار جاءوا من قواطع مختلفة حيث يُعقد اجتماع القيادات، ولأن الأنصار لا يضيعون فرصة كهذه، ابتكروا في مساء الخامس من حزيران فكرة لعبة كرة القدم، ولهذا الغرض رمموا الساحة الواقعة أمام مقر فصيل الادارة، وعندما مرّت دقائق قليلة على بدأ اللعبة وبدأ التصفيق والصياح والتشجيع، دوت صرخة النصير أبو روزا (طيران....) ويطلب منّا الانتشار، وسرعان ما إختفى فريق كرة القدم وإختفى جمهور المشجعين!. 

بدأت الطائرات بقصف القمم المحيطة بالوادي أولا، ثم إنحدرت لتقصف المقرات بعدة قذائف أخرى، وبعد أن أنهت مهمتها قفلت راجعة، فخرجنا من مخابئنا لنرى اننا لم نكن أنفسنا، والوادي لا يشبه الوادي، والألوان تغيرت والكائنات اختلفت والرائحة تعفنت، وزيوة باشجارها الخضراء وطيورها الملونة وزابها الجميل تحولت الى وجهها الآخر الكئيب الذي لا روح فيه ولا حياة!. 

اشتدّ وطيس ((الحرب اللسانية)) وساد اللغط، ولم نتفق على نوعية المادة التي قذفتها الطائرات، لا أحد يعرف، والعبقري ((كَوكَل)) لم يكن قد ولد في ذلك الحين لكي نسأله عن معنى السلاح الكيمياوي!، وبسبب تلك الفوضى لم يُتخذ الإجراء المناسب الذي يساعدنا في تجنب الإصابة أو التخفيف منها، ولكني عندما كنت واقفا بالقرب من النصير خابور الذي أصابته شظية في ساقه سمعت الطبيب الكوردي الذي جاء لمعالجته قال بأن الغاز هو غاز الخردل. وبعد ساعات كان اغلب الأنصار على علم بأن الطائرات قصفتنا بالأسلحة الكيمياوية وبدأت آثار الغاز تظهر على الوجوه والرئتين وفي الأماكن الحساسة من الجسم. 

نمت في تلك الليلة مع آخرين على سطح غرفة (م.س)، وبعد منتصف الليل وعلى أثر ألم في بطني مصحوبا برغبة في التقيؤ استيقظت، فسمعت ضجيجا في فصيل (الإسناد) ورأيت نارا مشتعلة هناك، نزلت من سطح الغرفة وذهبت باتجاه التلة، وعندما وصلت الى مقر الفصيل شاهدت عددا كبيرا من الأنصار وقد تجمعوا حول النيران وكأنهم في طقس اسطوري قديم لأشهار ما في قلوبهم من خشوع!، وكانت على وجوه النصيرات حيرة ووجع أكثر من وجع المصابين، وهنّ لا يملنّ من تقديم العون والمساعدة في مشهد تراجيدي لا يمنحك أية فرصة لأن تتأمل اللحظة الأخيرة قبل أن ترحل الى مصيرك الأخير!.

لم نكن في ذلك الحين قد تعلمنا ثقافة الحذر، ولم نتأكد بعد بأنّ اسلوب تواصل الدكتاتور الوحيد معنا ومع العالم هو الكراهية والعنف الشنيع، فبالاضافة الى خطأ هذا التجمع الكبير في مكان واحد، ارتكبنا خطأَ آخرا وهو عدم اتخاذ قرار بالصعود الى القمة في الدقائق الأولى للضربة والذي سيكون كفيلا بحمايتنا من الإصابة أو التخفيف منها على الأقل، لكنّ عنادنا القروي هو الذي جعلنا نفضل البقاء والجدل الذي يثبت عكس ما تتمناه السلطة الفاشية.

في صباح اليوم الثاني، اختفى آخر بصيص نور، فكان مناخا سيكولوجيا عجيبا يغنيك عن مشاهدة أفلام الرعب وعن قراءة ((الغثيان والأيادي القذرة))!، كنّا (نترادم)!، وكان الظلام يطاردنا، واليأس يهاجم المخيلة من دون رحمة وخاصة بعد استشهاد الرفيق ابو فؤاد الذي زاد من حيرة الرفاق وقلقهم. ومن أجل أن نتجنب استنشاق المزيد من الغاز ونتجنب غارات جديدة، بذل الأنصار الأصحاء القليلون جهودا كبيرة في ايصال المصابين الى القمة حيث مقر (الدوشكا)، لكن الوقت فات والقرارات متأخرة، واذاعة بغداد بدأت تعزف الألحان التي تخبرنا بأن لا شيء تغير منذ آدم، وانّ الفاشية هي الفاشية، وانّ القتل عابر للقرون والحقب والأزمنة، وانّ الأنسان مريض رغم أنف افلاطون!.

فقدت بصري تماما وصعدت على ظهر البغل برفقة الرفيق آسو كرمياني، وهو أحد أنصار مفرزة الثلج التي جاءت من سوران، وكان دائم الابتسامة ويتميز بدعابته، حاول أن يخفف عني ألم السكاكين التي قطعت أمعائي والمسامير التي تنغرس في عيوني، ولكن من دون فائدة.

عندما وصلت الى مقر (الدوشكا) الذي إنتشر فيه أكثر من 150 من الرفاق (العميان)، كان العلاج حسب أوامر طبيب الأسنان (أبو الياس) أن تغطس وجهك في الماء الجاري لأكثر من مرة وأن تتناول القليل من شوربة العدس وأن تكون صبورا وارادتك قوية في تحمل الآلام التى راحت تنهش في كل ناحية من جسدك. 

لكن المصيبة العظيمة، هي انك حين تفقد بصرك في الجبل، فهذا يعني انك فقدت آخر أسلحتك، وتحولت الى ممثل خارج خشبة المسرح وخارج زمن العرض!، وخاصة اذا كنت لا تمتلك أية معلومة عن النتائج الأخيرة لهذه الإصابة، ولم تجد الذي يخبرك بانّك ستتماثل على الشفاء أو انك ستموت بعد قليل، وانما كان كلّ شيء مجهولا وكأنّ الذي نعيشه مجرد قضاء وقدر وما علينا الاّ ترتيل الشهادتين قبل أن تصعد أرواحنا الى الرفيق الأعلى!. 

كانت اجسادنا لكي تقاوم بحاجة الى المزيد من الطعام، لكنه شحيح والإصابات كثيرة والذين نجوا قليلون، أمّا العلاج الطبي فليس له أثر، ولم يبق سوى المعنويات والاصرار على الخروج من الأزمة بأقل الخسائر، وهكذا وبعد عدة أيام من المعاناة والأوجاع، بدأ النظر يعود تدريجيا للبعض منّا، وبدأت الآلام تخف أيضا، وحين عاد لي أول بصيص من نور، شعرت وبالرغم من الألم الذي تسببه أشعة الشمس وكأني ولدت من جديد.

رحت أتفقد الرفاق واحدا بعد آخر، أبو رائد الشايب الذي كان يتمنى أن يرى أولاده الذين تركهم في اليمن قبل أن يلفظ أنفاسه، وأبو علي الذي أُصيب بنوبة سعال تشعرك بأنّ معدته وصلت الى حنجرته، سألته فقال: ساعة واحدة وأموت. ثم ذهبت الى الجندي الأسير الذي أُطلق سراحه، والذي كان نصيبي أن أنام الى جانبه في الليلة الثانية، كان المسكين يتألم من الحريق الذي صعد الى جوفه، ولم يصدق أنه بين عشية وضحاها يفقد بصره، فراح يئن ويبكي، حتى أيقظ الجميع بنحيبه ومناجاته لأمه!، يا يمة يا يمة.. فجلست وسألته سؤالا ساذجا.. لماذا تبكي!؟. سكتَ في أول الأمر، ويبدو أدهشهُ الغباء الذي ينطوي عليه السؤال!، ثم ردّ قائلا: (أنا اذا راسي يوجعني اروح الى أمي أبجي.. وهسة كيمياوي واعمى وتسألني ليش أبجي)؟!. 

وبعد كلّ هذا الضيم، (ونحن الذين صنعنا السحر....)!، ألا يحق لنا أن نسأل: كيف تحولت البلاد الى كعكة يتكوم فوقها سرب من النمل!؟.