اختفيت في منتصف عام 1988، فترة ليست قصيرة في مدينة السليمانية  في بيت عائلة حمة شوان ، العائلة النبيلة والكريمة التي ارتبط اسمها بدعم النضال الثوري ضد الدكتاتورية ، اذ يقع البيت في منطقة الحدائق الأربعة _جوار باخ _ حيث مواقع السلطة  وأجهزة المخابرات  و الأمن ،  وتعج بالدوريات  والحراسات الليلية ، وكنت أرتدي ملابس مدنية عادية  وأتنقل بشكل طبيعي بوثائق معينة ، باعتباري أحد أصدقاء حمة شوان  جئته للزيارة من بغداد ، ولم يعرف أحد أنني بيشمركة ، إلا أنني لم أكثر من التحرك لئلا يثير ذلك الشك وهذا يؤكد مدى المسؤولية التي كنت أتحملها إزاء العائلة ، فلمجرد انكشاف أمري سوف ألحق ضررا شديدا بالعائلة التي تؤويني  وتسهل اختفائي  وإنجاز عملي كبيشمركة …ومن جملة الأمور التي لابد الحديث عنها بصدد العائلة هو ارتباطها بالثقافة ، فقراءة ما هو جديد من الإصدارات  والكتب إحدى سماتها  وأغلب النقاشات التي كانت تدور مع الضيوف هي غالبا حول الفن التشكيلي  والأدب  وأحيانا حول المسرح والتاريخ  ونضال البيشمركة الذي  يحظى باحترام لا مثيل له عند أفراد العائلة ، وهذا ما أفرحني كثيرا ، وقد لاحظت أيضا تلك العناية الفائقة بتربية الأطفال بغية أن يشقوا طريقهم إلى ما يطمحون إليه في المستقبل فالتربية كانت نموذجية وواعية وحريصة حيث الاعتماد على تعبئة ذهن الطفل بالمعرفة التي تتناسب مع ذكاءه وتجيب على أسئلته المتنوعة وكذلك تشعره بالإحساس وإنه لابد أن يمارس استقلاليته ومرحه اليومي كطفل ، وكنا نتحدث مع الدكتورة شكرية رسول عند زيارتها للعائلة عن مواضيع شيقة للنقاش ، وهي الملمة بقضايا التاريخ والأدب والفكر فكانت تغني وجودنا بمعرفتها الشمولية ، فمن هذا البيت النموذجي في التكوين الأسري  كنت أواصل كتابة مخطوطة رواية ( الدفان و الغجرية ) ، والتي أطلع عليها في البداية المؤرخ العلامة المرحوم حسين قاسم العزيز صاحب الكتاب المشهور (البابكية) وقد أحسن العلامة موضوعها ، آملا أن أتم إنجازها  فصدرت في عام 1997في كتاب ، حينئذ تلقيت رسائل من المرحوم علامة اللغة الدكتور إبراهيم السامرائي ، وهو يقول في رسالته : (  لم تعرف عيناي النوم حتى أكملت قراءة الرواية ) ، وكذلك من الباحث الكبير المرحوم هادي العلوي …  

  كان صديقي الوفي حمة شوان  المثقف  الواعي  والذي ينهض مبكرا في الصباح ليمارس الرياضة في ساحة البيت ذات الحديقة الصغيرة التي تزهو بعناقيد العنب  يخرج معي للتجوال في أسواق  وأزقة المدينة التي غالبا ما تكون أبواب بيوتها مفتوحة ليلا ، قد تكون بحاجة إلى أن تؤوي البيشمركة بعد تنفيذ عملية عسكرية ضد مؤسسات الدولة القمعية  هكذا هم أهل السليمانية ثوريون في طبعهم و حميمون في سجاياهم ، محبين للأدب ومناصرين للأدباء ، لذلك ازدهرت المدينة بالشعر والنثر  والفن ، فكنت دائما أبحث عن الازدواجية  بين الثورة والثقافة وكأنهما توأمان في هذه المدينة ، وقد حاولت أن أهتدي إلى هذا التوأم تاريخيا   فلم أستطع رغم النقاشات التي كنت أخوضها مع المعنيين بهذا الموضوع الشيق، فصرت أحاول استيعاب اللغز الأعمق لهذا التوأم  وفهم الحقيقة الكاملة ، هكذا كانت تتملكني صرختان الأولى صرخة الثورة ضد الظلم والثانية صرخة الثقافة ، صرختان تتغلبان على كافة الصرخات اليومية وعيناي حائرتان وأنا أسأل نفسي : ( من أين جاءتا ؟ ما هو امتدادهما التاريخي ؟) ، هكذا حاولت أن أجد لهما تفسيرا ولعلي اهتديت إليهما  ، فالمدينة تسلحت بذوق حسي واستيعابي ضمن تطورها وتبحث خارج حدودها في المعرفة الإنسانية ، فكان روادها من طلبة العلم و شعراءها كرواد لتأثير انفعالي ، لينطلق ما بداخلها من تعلم نحو هدف أكبر وهو التوأم الذي يثبت استقلاليتها ويحررها من ظلم تسلط الدكتاتوريات كإجراء ليربط ما بين الحياة و الثقافة و ما بين الفعل الحسي والفعل الثوري  لتبني كينونة سياسية - اجتماعية للإدراك الشمولي ، لذلك حاولت أن تجد خطابها الخاص سلفا ومستقبلا ، إذ لا ثورة بدون ثقافة ولا ثقافة بدون ثورة ضد الاضطهاد ، هذا المعنى كانسجام وتحديد و تأطير خلق صيرورة صرخة التوأم لتتفرد بها المدينة وتتوحد مع عالم الكرد ، عندئذ أصبح سلوكا وممارسة وتكوينا ليكون حضوره متواصلا ولتفرض المدينة منزلتها ، وقد أفرحني معرفة التاريخ ، إذ أن أميرة إمارة السليمانية كانت امرأة ، أجل كنت أشعر بالدور الاجتماعي والحضاري للمرأة في السليمانية فهي ذات رأي مستقل فكريا ، فلا عجب أن تجد في بيت واحد تعدد المفاهيم  وتعدد الانتماءات السياسية سواء ما يخص المرأة أو الرجل كما أن المرأة  تسهم في التطور الاقتصادي  السياسي في العائلة والمجتمع ، وكنت ازداد فرحا عندما نتجول في شارع - توي مه ليك - الواسع والطويل والمنتشرة على جانبيه الأشجار ، أو نذهب إلى -  سه رجنار - في وقت الغروب حيث العوائل تنتشر على امتداد جانبيه فرحة و مرحة يتزاورون مبتهجين في يوم العطلة ، وتسمع أصوات السلام والترحيب  وتدعوك لمشاركتها جلستها لشرب الشاي  وأكل الحلوى أو المساهمة في تذوق مائدتها الشهية  إنك سوف تخرج من هذا الاحتفال البشري البهيج كأنك تخرج من عائلة واحدة متماسكة ، إلا ما حدث لي في مساء يوم ربيعي هزني في مكاني ، حيث كنت أواصل كتابة مسودة ( الدفان و الغجرية ) ، وحمة شوان جالسا إلى جنبي وفجأة سقط مطر خفيف  وهبت ريح سوداء عارمة  هزت الأشجار   والأبواب  وانقلبت بعض الأشياء في ساحة البيت   فنهضت مرتبكا  وأنا أسال حمة شوان باستغراب :

- ماذا يحدث ؟!

فأجاب ، و هو يبتسم كعادته :

- ره شه با …

ثم صرنا نتحدث عن قوة هذه الريح التي تأتي من الوديان من خارج السليمانية المحاطة بالجبال ، إنها تكسر الأشجار و تسقط بعض جدران البيوت  خاصة تلك البيوت القديمة وأحيانا ترافقها زوبعة- كيزة لوكة - تدور ، وقد تجعل الإنسان لا يستطيع السير ضدها ، و هناك من يعتقد إنها تطرد الشر  ، ثم تطرقنا إلى - باو بوران - الرياح القوية مع مطر غزير   التي تختلف عن - فرتنية - السريعة المطر ، و كذلك تطرقنا إلى - توفان - الطوفان الرهيب المخيف ، كل هذه الرياح تحدث في الربيع و الشتاء و الخريف ، تركني حمة شوان ليتابع ما أحدثته الريح السوداء في أشياء باحة البيت  و أنا أقف محدقا من صالة البيت الأمامية بالأشجار التي تهتز بعنف ، هذه الأشجار التي تعلقت عيناي بها والتي يزهو بها البيت ، عدت إلى الغرفة  وواصلت كتابة مسودة  ( الدفان و الغجرية )  وقد تعلقت في عيني صورة الرياح  والمطر  والفيضان  وأنا أكتب عن عالم آخر   بعيدا عن السليمانية : ( رعدت السماء ، وهطل المطر غزيرا ، وتحول صراخي إلى غناء  وفاض الفرات   وفاض الجدول   وأغرقتني المياه   وصرت من ذلك الحين أغنية ) .