حدث هذا في نهاية شهر آب 1985

كتب الكثير من الرفاق الأنصار عن يوميات وذكريات من حياتنا الأنصارية، الكثير منها يحمل الجدية والمعاناة سوى كانت معاناة صغيرة أم كبيرة. فكرتي كانت أن أكتب بعض الصور واللقطات القصيرة قد تكون مضحكة لكنها بنفس الوقت محزنة كلّما تمعناها بعمق وإحساس.

  كانت أحلامنا في بعض الأحيان وضمن إطار حياة اجتماعية بسيطة هي أيضا بسيطة ومضحكة عندما نتذكرها ونريد أن نكتب عنها!، ان تحلم ببطيخة مثلا!. كنا في فصيل الاعلام المركزي في الصيف وأسوة ببقية الفصائل كانت عندنا مزرعة جميلة ومليئة بكل ما نحتاجه من خضار للاستخدام اليومي وتغيير نوعية الطعام في هذا الموسم وليكن بديلا عن العدس والفاصوليا والحمص. كان المسؤول عن هذه المزرعة الرفيق أبو جعفر، وهو خريج كلية الزراعة من إحدى الجامعات في هنگاريا، لهذا فأنّ هذه المزرعة لها طابع خاص، وبنفس الوقت كان الدخول إليها من غير مرافقة وموافقة أبو جعفر ممنوع منعا باتا. لهذا كنّا نحن الانصار نحاول بشتى الطرق ونفكر طويلا بكيفية الدخول الى المزرعة وقطف ما تشتهي الأنفس بدون علم أبوجعفر. كنّا أنا والرفيقة سمر يوميا نمر عبر هذه المزرعة في طريقنا الى اداء المهام المناطة بِنَا، الرفيقة سمر الى الإذاعة وأنا الى اللاسلكي. نقف ونتأمل ونخطط ونضحك من القلب ونومئ لبعضنا أن نحكي بصمت حتى لا يسمعنا الآخرون: عن ماذا نحكي ونخطط!؟. وفِي احدى الأيام ونحن نقف هناك، وقع نظرنا على ثمرة  كبيرة صفراء اللون متسدية على الأرض، صرخت أنا بصوت عالي: "سمر انظري شنو رأيك ان نقطف تلك البطيخة" . "أنت متاكدة انها بطيخه؟"  اَي نعم" أجبتها  وسرنا نكمل طريقنا الى الكپرة. جلسنا داخل الكبرة وبدأنا بالتخطيط الى كيفية قطف هذه البطيخة. كان الجو حارا جدا ومع هذا كنّا نجلس داخل الكپرة حتى لا يسمعنا الآخرون، وبدأت سمر وبكل ما عندها من فانتازيا ان ترسم كيف ومتى نبدأ بتنفيذ هذه الخطة كما أسميناها حينذاك، واستمرت عملية التخطيط بينما كنّا نتابع نمو البطيخة كما لو انه نمو جنين!: ((الْيَوْمَ تبين أطول، لونها صار أعمق!))، ونضحك من القلب حتى كادت هذه البطيخة ان تنسينا كثير من الأعباء اليومية. صرنا نذهب الى المزرعة اكثر وأكثر، نتابع ونراقب الوقت الأفضل والمناسب للدخول وتحقيق حلمنا بقطف البطيخة. بعد ما جمعنا المعلومات المطلوبة وانهاء عمليات الاستطلاع، قررنا آن نقوم غدا مساء بقطف البطيخة عند عودتنا من الإذاعة. 

كان قرارنا هذا ينتابه الكثير من الريبة والقلق، لكننا جمعنا كل ما نملك من قوة لكي نستطيع اقتحام أسوار المزرعة، وتم الاتفاق على ان تكون الرفيقة سمر خارج السور ترصد وتراقب وانا أتسلل الى الداخل وباستخدام التورچ لايت*. ها نحن نصل الى المزرعة حسب الوقت المقرر وبكل هدوء فتحنا الباب، وكما هو متفق وقفت الرفيقة سمر في الباب وبدأت أنا بالتسلل داخل المزرعة، وذهبت بسرعة باتجاه الهدف المعني (البطيخة)، إلتفت يميناً ويسارا، كانت يدي ترتجف وبصعوبة فائقة أظهرت السكين من حزام القابوريات وقطعت البطيخة بسرعة فائقة. كانت سمر قد اصيبت بنوبة ضحك هستيرية اضطرتها ان تجلس على الارض، وطبيعي انتقلت هذه النوبة لي أنا أيضا بعد ان جئت حاملة البطيخة المرتقبة. أكملنا ضحكنا وساعدنا بَعضنا وتركنا المزرعة. بدأنا نشمها ولكن الغريب في الأمر لم نشعر برائحة بطيخ، كانت هذه الثمرة عديمة الرائحة، فكنا نطمئن بَعضُنَا قد تكون هذه النوعية بدون رائحة.  

هممنا الى الكبرة بسرعة فائقة حتى لا يرانا أحد من رفاق الفصيل ويكشف جريمتنا. طبعا كان احساسنا بأنها جريمة ولا يمكن أن نسامح أنفسنا على ارتكابها، ولطالما ظل هذا الإحساس يراودنا، ومع هذا تجرأنا على القيام بهذا العمل. دخلنا الكبرة بكل هدوء، فتحنا (التورچ لايت) لكي نتأكد من اننا قد قطفنا نفس الثمرة "البطيخة" اتفقنا على ان نفتحها ونأكلها قبل ان تأتي الرفيقات الأخريات، وكاد القلق يقتلنا حينها. على أية حال وضعنا السكين بداخل البطيخة وكنا خربانين من الضحك وكانت المفاجأة انها ليست بطيخة كما كنّا نتصور. هذه خيارة كبيرة من الخيار الذي يتركه الرفيق أبو جعفر لاستخدام بذوره في الموسم القادم. صار الوقت متأخر من الليل ولَم يكن بمقدورنا إعادتها الى المزرعة، فوضعناها تحت السرير. 

خيم الصمت حينها على الكبرة وكأننا أصبنا بكارثة. كانت كل واحدة منا تفكر بكيفية إعادتها الى المزرعة قبل ان يكتشف أبو جعفر الجريمة. كسرت الرفيقة سمر هذا الصمت بفكرة وقالت لي: شنو رأيك نفيق غدا صباحا قبل الفطور ونعيدها الى مكانها!؟. كان هذا المقترح غير مقنع إطلاقا لأن هناك الحرس الأخير وايضاً الرفيق الخفر. اتفقنا على إعادتها مساء عندما نذهب الى المخابرة "اللاسلكي" وأطفئنا اللالة ونمنا. نهضنا صباحا وذهبنا الى الفطور وهناك في المطعم تجمع كافة رفاق فصيل الاعلام، وبعد ان أخذنا الفطور وتوزعنا "سي سي"المقصود ثلاثة.. ثلاثة (كنّا نأكل كل ثلاثة رفاق بطبق واحد)، دخل الرفيق أبو جعفر متوتراً وينضح عرقا وبصوت متوتر جدا قال "رفاق سماعي رجاءاً" لم يسمع الكل هذا الإيعاز، وقالها مرة أخرى وبقوة وعصبية "يارفاق أنا اكثر من مرة قلت اَي شيء تحتاجونه من المزرعة حاولوا ان تطلبوه مني!، اريد اعرف منو دخل البارحة للمزرعة وقطع الخيارة الكبيرة!، هذه الخيارة ليس للأكل، هذة الخيارة تركتها حتى تبقى كبذور للموسم القادم". ما كان أحد من الرفاق يشك ولو للحظة ان واحدة منا قد ارتكبت هذة الجريمة. كنّا أنا وسمر لا نعرف أين نهرب بنظراتنا المرتبكة، كنّا فعلا محرجين ونريد الخروج من القاعة بأي شكل، ولكن لم نخرج حتى لا يشكُ الآخرون بنا!. وبدأ الكل بالتصنيف والمزح، مما زاد من قلقنا واضطرابنا. وحين خرج بعض الرفاق من القاعة خرجنا أنا والرفيقة سمر محاولين كتمان مشاعرنا. كنّا نرغب بإرجاع  الخيارة للمزرعة بأي شكل من الأشكال وبسرعة، لكن هذا غير ممكن لا نريد ان يكشفنا الآخرون.

بعد الغداء وعندما هَمَ الكل بالجلوس في الكبرات بعيدا عن حر الظهيرة، تسللنا بسرعة الى المزرعة واحدة تراقب الأخرى ورمينا الخيارة قرب باب المزرعة حتى يتسنى الى الرفيق أبو جعفر رؤيتها عندما يدخل  مباشرةً وعدنا بذات السرعة الى الكبرة، وبهذا الطريقة تخلصنا من آثار الجريمة كما كانت الرفيقة سمر تسميها.