1: المجهول

كنّا سبع أو ثمان نصيرات مسلحات في الفوج الثالث في قاطع بهدينان، بالاضافة الى عدد من الشابات والنساء اللواتي كنّ برفقة أزواجهن أو ذويهن من الأنصار. كُلفت كل واحدة منّا بمهمة وسط عدد كبير من الرفاق، وكنّا نعرف انّ نصيرة مسلحة في مجتمع رجولي لم يكن بالشيء السهل، وانما يتطلب المزيد من الثقة بالنفس والشعور العالي بالمسؤولية. مهمتي كانت العمل في المخابرة، وهذا يعني إستلام وإرسال البرقيات من والى المقرات كافة. كانت المهمة في غاية السرية، ولكون المخابر يعرف ما يدور وراء الكواليس ولا يستطيع البوح بها حتى لأقرب الناس، فأنّ معاناته ستكون كبيرة. 

في الثلث الأخير من شهر آب 1988 بدأ الصمت والترقب يعم أجواء الفوج، فالبرقيات بدأت تنهال على المحطة وتشير الى خطط الانسحاب "الانسحاب الى المجهول". كان عملنا في المخابرة التي يتألف طاقمها من النصيرتين (أنوار، وآفاق) والنصير أبو عصام، يتطلب في الظرف الجديد المزيد من الجهد والسهر والجوع كي نقوم بفتح رموز البرقيات، حيث القوات الصدامية باتت على مقربة من مواقعنا. تقرر انسحاب العوائل، الرفيقات، المرضى وكبار السن الى (گلي خانوكة) القريب من الحدود التركية، وبقي في المقر رفاق المخابرة الثلاثة اضافة الى عدد قليل من الأنصار. الطيران يتزايد وصوت المدفعية يقترب وأصبح القلق واضحا على وجوه الرفاق لمعرفة خطة الانسحاب التي طالما تحدثت عنها القيادة. العديد من التساؤلات بدأت تدور في رؤوسنا مثل: هل من الممكن ترك تاريخ طويل من التضحيات وقبور الشهداء بهذه السرعة!؟. البرقيات والاتصالات كانت مستمرة مع باقي المواقع، ولكن تسارع الأحداث أفقدنا الاتصال مع بعضها ومنها مقر قاطع بهدينان. بعد انقطاع الاتصال استعدينا لمغادرة أعز الذكريات وأجمل الأيام، قبور الشهداء وغرفة المخابرة التي كانت تربطنا بها علأقة حميمة مليئة بالأسرار.

المقر أصبح خاليا بعد أن كان يعج بالحياة، غرفة الفصيل التي كانت منتدى للنقاش الفكري والأدبي والهزلي تحولت الى غرفة مليئة بالأوراق والملابس المهترئة والذكريات المبعثرة، حتى عين الماء التي كانت تشق خاصرة الوادي بدت حزينة ونواحها يتسلل لغرفتنا حين يسكن الليل.

2: الانسحاب

 كما بينت سابقا، انسحبت النصيرات من المقر، ولَم يبق منهن سواي "انوار او اكرام" والرفيقة آفاق (اقبال) وذلك بسبب عملنا في المخابرة. بعد قرار الانسحاب توجهنا على عجل الى غرفتنا الصغيرة وأخذنا حقيبة الظهر التي كانت مهيئة لمثل هذا اليوم وتحتوي على زوج من الملابس الداخلية ومنشفة صغيرة، ثم حملنا بنادقنا وضروريات أخرى تاركين أجمل الذكريات التي عشناها هناك. الرفيق أبو عصام رفض رفضا قاطعا أن نساعده في حمل جهاز اللاسلكي، فقد حمله طوال الفترة على ظهره دون أن ينبس بأية كلمة. علماً أن جهاز اللاسلكي كان يزن ما لايقل عن 10 كغم.

تحركنا مساءً باتجاه تركيا على الرغم من انّ الوجهة في البداية كانت الانسحاب السريع والعثور على مقرات جديدة بعيدة عن السلطة. الكثير منا كان يدرك اننا متوجهون نحو المجهول ولذلك لم نكن نفكر بأي شيء مستقبلي. كان تفكيرنا منصباً على كيفية الانسحاب. كنا نسير مع قوات (حدك) وعدد غفير من العوائل التي تركت الغالي والنفيس بسبب تهديد النظام بضرب مقرات البيشمركة والقرى الكردية بالأسلحة الكيمياوية.  المسير لم يكن عادياً وانما كان على شكل هرولة من أجل الوصول بسرعة الى مواقع آمنة، فقوات السلطة تتقدم نحونا بسرعة. 

الهرولة مع حقيبة وبندقية استنزفت كل طاقتي ولذلك طلبت من الرفاق الذين كانوا يسيرون بالقرب مني وهما زوجي (ابو هدى طريق) والرفيق أبو أنيس أن يتركوني ويواصلوا المسير وذلك لعدم قدرتي على المواصلة. وبطبيعة الحال رفض الرفيقان وحثاني على عدم الاستسلام. بعد مسافة من السير وصلنا مكان يجري فيه الماء بسرعة ويعتبر الحد الفاصل بين الآمان وخطر القصف المدفعي، المجرى ليس عميقا، ولكن لقصر قامتي فأنها كانت عميقة نسبياً. دخلنا المجرى ولَم نفكر بشيء سوى العبور والخلاص، ولكن شدة وسرعة جريان الماء كانت أقوى مني، فجرفتني معها، الاّ انّ ابو هدى(زوجي) وأبو أنيس كانا سريعين جدا بالتقاطي من الجوف. أبو هدى قرر حملي على ظهره لحين تجاوز مجرى الماء. المسافة كانت قصيرة ولكن بالنسبة لي كانت طويلة جدا. كي نصل الى گلي خانوكة كان يتوجب علينا مواصلة المسير لعدة ساعات. كنا خائري القوى بسبب التعب، الجوع والعطش اضافة الى حالة الاحباط آلتي كنا نعاني منها. لم يشغل فكرنا شيء سوى لقاء الرفاق وتأمين الاتصال بالمواقع الاخرى. 

3: كمين

وصلنا قرية قمرية المهجرة مساءً ووجدنا جموعاً بشرية هائلة تستعد لدخول تركيا، وهناك التقينا برفاقنا، فكانت فرحتنا كبيرة جدا لسلامة الجميع. كانت الوجوه حزينة، يائسة وشعور الانكسار والخسارة كان يخيم على الگلي. وحال وصولنا الى گلي قمريه بدأ الرفيق أبو عصام بنصب جهاز اللاسلكي للاتصال بالمواقع الاخرى كانت هناك اشارة ضعيفة الاّ انها اختفت سريعا ولذلك قررنا عدم الاستمرار.

أنا والرفيقة اقبال شعرنا بالإعياء من طول المسير، فكنا بحاجة الى النوم ولكن أين ننام وبماذا سنتغطى، فجاءنا المنقذ الرفيق جلال (جلاوي) بكرتان البغل للتغطية، رفضنا في البداية لكون الكرتان كان قذر جداً ولكن تراجعنا عن قرارنا لعدم وجود البديل. استيقظنا صباحا بإحساسٍ خالٍ من الأمل لعدم معرفتنا ان كنا سنعيش أم نموت. أكلنا على عجل، وغادرنا المكان، لكننا ما أن تحركنا واذا بقنبلة تسقط بالضبط في المكان الذي كنا به أنا وآفاق. حينها علمنا ان القوات الحكومية قريبة منا فتابعنا الانسحاب باتجاه گلي خانوكة وهو الأقرب للحدود التركية والوصول إليه يعطي نوعا من الأمان، مع العلم كان الجميع بحالة نفسية سيئة.

4: بصيص أمل في الظلام

في گلي خانوكة إلتقينا بالرفاق المرضى، المسنين وعدد من الرفيقات الذين انسحبوا قبلنا. الوضع أصبح معقداً بسبب تقدم السلطة لذلك تقرر دخول الرفيقات، المرضى والمسنين مع العوائل الكردية الى تركيا مع بقاء عدد قليل من الرفاق ومن ضمنهم زوجي في گلي خانوكة وذلك لفتح مقر جديد. المؤلم في گلي خانوكة هو ترك العوائل الكردية حيواناتهم وأغراضهم التي كانت مصدر رزقهم من أجل دخول تركيا والبدء من جديد. بعض الرفاق المرضى وأخص بالذكر الفقيدين أبو شاكر وحجي بابونگ رفضوا رفضا قاطعا رمي سلاحهم ودخول تركيا على الرغم من أمراضهم. 

نحن الرفيقات واجهتنا مشكلة ارتداءنا لملابس البيشمركة، فتعذرعلينا دخول تركيا بالطريق الرسمي لكي لا تكشف ملابسنا هويتنا السياسية، فأضطررنا أن نسلك طريقاً آخراً بمساعدة أحد المهربين وبصحبة أحد الرفاق. كان علينا المسير ليلا وذلك للوصول قبل الشروق كي لا يرانا أحد ويشي بِنَا. كنا على ما أتذكر أربع رفيقات (آمال، آفاق، مريم وأنا)، مهرب واحد والرفيق خيري. بدأنا المسير ليلا في جبال حادة وخالية من كل شيء سوى الظلام وصوت اقدامنا. كل مرة نسأل المهرب الى أين نحن ذاهبون؟، يجيبنا لا أعرف وعلينا ان نصمت ولا نسأل. بودّي الإشارة هنا اننا كنا جميعا بدون سلاح عدا المهرب ولذلك كان ينتابنا شعور بالخوف وعدم الأمان. واصلنا طريقنا لساعات، فدخلنا الى تركيا، وأخذنا المهرب قبل بزوغ الفجر الى غرفة من أجل اخفاءنا، فسعدنا جدا لوصولنا الغرفة، تمددنا جميعا فوق أرضية ليست بالمنبسطة وانما كانت مليئة بالكرات، تصورنا أننا ننام على جوز ولكن اتضح فيما بعد اننا كنا نائمين على مخلفات الأغنام التي تحفظ كسماد. 

في هذا المكان تم تزويدنا بملابس قروية. الناس كانوا طيبين ويرغبون بمساعدتنا. بعد وصولنا بيوم واحد إلتحق بنا بقية الرفاق، فتقرر انسحاب الجميع الى قرية كريموس التركية. أود الاشارة هنا الى ان دخول تركيا كلفنا حرق أو دفن كل وثائقنا، صورنا وأسلحتنا اي دفن أنفسنا وتأريخنا سوية. عند وصولنا القرية لم نملك أي شيء، وكنا نفكر كيف ننام ومن أين نحصل على الطعام. لذلك بدأنا بجولة استطلاعية كي ندبر حداً أدنى لراحتنا وإذا بِنَا نجد عدداً كبيراً من اكياس الطحين ثم تكلمنا مع أحد الفلاحين بملأ هذه الاكياس بالتبن وبعد خياطة الاكياس مع بعضها أصبح لدينا فراش نوم ممتاز كما أن أهالي القرية اعطونا بطانية وبذلك أصبح لدينا فراش جيد. 

بعد أيام، وكان ذلك في شهر ايلول، تقرر تسفيرنا الى مدينه أخرى، فوضعونا ليلا في شاحنة أغنام مكشوفة. الرحلة استغرقت 24 ساعة واعتقد أننا توقفنا مرتين للاستراحة. بعد ذلك وصلنا الى مدينة ديار بكر، هناك تقرر أن نسكن في خيمة واحدة وعددنا أكثر من عشرين شخصاً. على الرغم من عددنا الكبير واختلاف أمزجتنا الا اننا كنا منسجمين. المخيم كان خالياً من ابسط الخدمات الإنسانية كالطبابة، الماء، المرافق الصحية والطعام. كان عدد الساكنين في المخيم 14000 شخص ولرعاية هؤلاء الناس كان هناك طبيب واحد وممرضة واحدة وكانوا يرفضون معاينة المرضى في وقت الليل. أدى هذا الى موت إعداد كبيرة من الأطفال، المرضى وكبار السن. أجمل ما في المخيم كانت روحية المواطن الكردي وسرعة تأقلمه على العيش حيث بدأوا بإعداد المواقد وترتيب الخيم وجلب الحطب حال وصولهم الى هذا المكان. استمرت إقامتنا في المخيم عدة أسابيع وبسبب الفيضان الذي تعرضت له خيمنا، نقلونا الى شقق كانت مخصصة لمتضرري الزلزال الاّ انها كانت غير صالحة للسكن. لم يكن لدينا اي خيار الاّ القبول بالأمر الواقع. شقتنا كانت تتألف من غرفتي نوم وصالة وعددنا 32 شخص على ما اذكر. في غرفتنا كنا خمس نساء وثلاثة رجال (آمال، آفاق، مريم، جنان، أنا، أبو وسن أيار وأبو هدى). كان الماء يتوفر مرة في اليوم ولمدة ساعة أو ساعتين مما يجعلنا نسارع لملأ كافة الأواني أما الاستحمام فكان يتم بجدول. ولكي يمر الوقت كنا (نحن الرفيقات) نلعب الورق، أو نبني قصوراً من الخيال. كنا سعيدات رغم مرارة السكن والعيش في المجهول، نتطلع لزيارة المدينة ولكن لم تكن لدينا الملابس التي تفي بالغرض المطلوب ولكي نظهر بمظهر أنيق قامت الرفيقتان آفاق وجنان بتفصيل قماصل مطرزة جميلة من البطانيات التي تبرع بها أهالي القرية لنا. كنا فخورات جدا بملابسنا أثناء تجوالنا في المخيم وسط أهالي القرى ولكن وحال ذهابنا الى المدينة شعرنا بقباحة لباسنا. مكثنا في ديار بكر عدة أشهر ونحن نعيش على نفس الوتيرة الى حين تم تهريبنا وبدفعات الى سورية كخطوة أولى لحياة أفضل.