تشير سيرته التي يتداولها بعض ممن يعرفه، الى انه رجل مسالم و بسيط، يقطن احدى قرى سهل كرميان، أو في منطقة شوان الأخضر المتموج التابع لمدينة كركوك. يرعى قطعانهم في مواسم طويلة في مختلف ضروب مناخاتها المتعددة.

جنرال نوزنك المتوحد مع ذاته ومع خيالاته العظيمة، يخيل إليه في أوقات كثيرة، أنه جنرال المقرات الذي لا ينافسه أحد. يغرق في عزلته متوهما عوالم غرائبية. له نسق حياتي من صنع خياله، حياته الخاصة المتفردة.. جسده منتصب مقدود من حجر. يعتمر قبعة عسكرية، في مقدمتها نجمة حمراء، تشبه تلك التي يعتمرها جيفارا. تغطي وجهه الأسمر المتغضن الجبهة، الحاد التقاطيع لحية سوداء كثة. يجوب الأودية العميقة والقمم الشاهقة معتمدا على ذلك الجسد الحجري العنيد.

 يبدو وكأنه مقاتل عريق، من جيل العصابات الثورية الذي سبق حقبته هذه.... هائم في ملكوته، في فضاءات من الوهم، في براري وحدته. أشباح ورؤى وأطياف من الألم، تجعله يهذي. يتبع قطعان أحلامه وتخيلاته، خيالات تشبه الجنون، في الظاهر، لكنها قطعا خيالات الوجع والخيبة..

يقف متوثبا مثل ماعز جبلي فوق صخرة، تحته تقف جحافل جيش جرار في حالة من التأهب والاستعداد، يخطب  بحماس منقطع النظير، لا يتوقف، يرفع نبرات صوته ويخفضها، وهو في حالة من الغضب.. ليس هناك من يعرف ماذا يرى حميد حين يلقي خطاباته هذه؟، وحده امام حشد لا نراه، هو الذي يرى الأشياء كلها.

وحيدا يختار الأماكن غير المأهولة، يحمل عصاه يهمز بها الوقت والريح واشباح تتراءى له وحده، يطرد أشباح الغرف المظلمة في هندسة الموت، يهمز بها فرس أوهامه الجموح. فرس أحلامه البسيطة في عيش كريم، التي خذلها الجلادون. 

على صدره نياشينه الحمراء المزدحمة، التي حصل عليها من حروب وهمية، نياشينه المصنوعة من قماش بالٍ ومن معدن صفائح زيت الطعام المهملة، وعلى عنقه يتدلى جهاز راديو مثل قلادة الجنود التي يعلقونها في وقت الحرب، يستمع  الى الاخبار ويحلل الوقائع والأحداث وكل ما يحيط بالعالم من كوارث..

وفي لحظات تجلياته الكثيرة، ينتبذ اعلى صخرة في مواجهة الفراغ المطلق، يتصل  بزعماء دولة كبرى. يخاطب برجنيف الزعيم السوفيتي وقادة دول شيوعية، يحاورهم كما لو انهم جالسون على طاولة واحدة. كانت تلك الأنظمة التي لم تتضامن ولم تعترض على سلوك البعث التدميرية، لم تساهم بوقف النزيف، لم تقف ضد دورة موت الشيوعيين في مسالخ البعث، صديقهم الحميم، قادة خذلوه كما خذلونا نحن رفاق حميد.

 كأن شعوره الداخلي المكبوت يتفجر عن وعي عظيم  بالكارثة التي حلت بنا.

كان يصرخ  وحيدا.

صوته الخشن البري الفخم، تردد الوديان صداه، وهو يصرخ من الألم والخسارات لكنه يتبدد مع الريح، انه يخاطب الوهم الحقيقي.

في ريف كرميان، نحت هذا الفتى الطيب العنيد، من البراري وعراء الليالي الطويلة. كان راعي قطيع القرى الأمين، الفتى الذي يحرس القطيع، بروح مقاتل (حسب الاحاديث التي تروى عن حياته).

لم يخض حميد الجنرال، حربا ابدا.. رقيق ومسالم كنسيم صيف مسائي، تتجلى هذه الروح الأليفة في لحظات صفاء الذهن حين تغادره نوبات الألم الداخلي. لم يك مجنونا قط. بل هو نتاج هندسة التعذيب البعثية، الهندسة التي قد عبثت بكيانه حد التدمير، محاولة مسخ الانسان فيه. تدمير منظم لروح الفرد وكسر ارادته، بتحطيمه من داخله.. من خلال أدوات المسخ، في الاقبية المظلمة، بيوت الموت الموحشة.

 تعرض حميد قبل ان يصبح جنرال الأودية والقمم الشاهقة، الى تعذيب وحشي، يفوق قدرة الجسد والروح على التحمل، تنكيل بربري بهذا الجسد الإنساني الهش. 

وحيدا بين الصخور والأشجار وفي القمم العالية. ابن الطبيعة وراعي قطعان غيومها. لا يخضع سوى لحريته  ورغباته الغرائبية.

حوله الزمن الاغبر الى لعبة او دمية بشرية تثير السخرية البليدة. لكنه متوحد بشكل  مع ذاته ورؤاه واطيافه. متصالح جدا مع نفسه غير مكترث بسخرية الاخرين.

كما قال عنه احد: (هكذا صار حميد نكت بين رجال يضحكون)

هذا الجنرال المتوحد مع خيالاته لم يهزم، رغم وحشية الجلاد  وسخرية بعض من رفاقه.