إلتقت النصير الشيوعي الرفيق النصير ملازم نعمان وطرحت عليه الكثير من الاسئلة، فأجاب مشكورا:

أنتمي الى عائلة معروفة بمناهضتها للاستبداد منذ العهد الملكي. سكنت بغداد منذ القدم في منطقة (قنبر علي) في جانب الرصافة. عائلة عمالية، حيث كان أبي عامل مطابع وعمي عامل ميكانيك، أما عائلة أمي، فهي من منطقة (كويسنجق) في أربيل، أجبرتها الحياة والنضال على النزوح الى بغداد، وكان أخوالي عمالا أيضا. في فترة الحكم الملكي عانى أفراد العائلة من الملاحقة والسجون، ولم ينجو أحدا منهم من السجن حتى أمي. أما بعد انقلاب شباط الأسود 1963 فقد أستشهد أبي وخالي الأكبر، وأعتقل عمي وأخوالي الآخرين، وأُعتقلت أمي كذلك، ولم يبقَ سوى جدتي وزوجة عمي، فأضطررت أن أعمل وأنا في سن 8-9 في العطلة الصيفية في معمل الألمنيوم لصناعة الأدوات المنزلية التابع لعائلة الصفار المعروفة بوطنيتها، ومنها أصبحت أقضي العطل المدرسية بالعمل حتى تخرجي من الاعدادية. وفي مرحلة الشباب عملت مع عمي، حيث كان لنا معمل للحدادة في شارع الشيخ عمر الذي كان للحياة فيه الفضل في تكوين شخصيتي.

 بعد إنهاء مرحلة الاعدادية، حصلت على زمالة دراسية في موسكو، فدرست هندسة الميكانيك، لكني وقبل الذهاب الى موسكو وأثناء دراستي في الاعدادية كنت قد انتميت لاتحاد الطلبة العام ومن ثم رشحت لعضوية الحزب الشيوعي العراقي.

في موسكو عملت في رابطة الطلبة العراقيين وشاركت في العديد من النشاطات. في السنتين الأخيرتين من الدراسة، بدأت حركة الأنصار في التبلور وأصبحت الوجهة للذين أنهوا دراستهم. لم يكن التوجه الى كردستان اجباريا، ولكن عدم التوجه إليها كان معيبا. بالنسبة لي قررت الالتحاق بالحركة وبدون أية ضغوط، بل على العكس، كان رأي الحزب أن أكمل دراسة الدكتوراه من منطلق أني الوحيد لأهلي وإبن شهيد، لكنني رفضت هذه التبريرات وتوجهت الى دمشق مباشرة بعد دفاعي عن الدبلوم بدرجة ممتاز عام 1981. وفي دمشق كان عليّ التوجه الى اليمن الديمقراطي للالتحاق بالكلية العسكرية، التي تخرجت منها برتبة ملازم دروع عام 1983 وتوجهت الى كردستان مباشرة، حيث وصلت الى القامشلي، ومنها انطلقت في رحلة العودة الى الوطن برفقة كوكبة من الرفاق. كانت رحلة طويلة وصعبة ولكنها كانت التجربة الاولى التي استطعنا اجتيازها، وأول مقر وصلناه عبارة عن كهف وتنور خبز يديره الشهيد أبو كريم. هناك سمعنا بأحداث بشتاشان الأولى والأهوال التي تعرض لها الرفاق، وكان وقع الخبر علينا كالصاعقة. كانت نقطة أبو كريم هي منطقة عبور للرفاق بعد تركهم المقر في (يك ماله) نتيجة الحشود التركية. توجهنا الى مقر قاطع بهدينان المؤقت في منطقة (بلمبير). هناك كان الموقع مربك بين أخبار بشتاشان والتقدم التركي المرتقب، لذلك كانت مشاعرنا بلقاء الرفاق وبشكل خاص أنني أعرف الكثير منهم، غير طبيعية، فكان الفرح المصحوب بالحزن والقلق. وبالفعل في الليلة الثالثة لبقائنا حدث التقدم التركي، فتصدينا له، وللأسف خسرنا الشهيد البطل أبو فكرت وجرح م. باسم الذي كان معنا في نفس المفرزة أثناء الدخول للأراضي العراقية، هذه ظروف أول مقر للأنصار دخلته.

توجهنا الى مقر المكتب السياسي لتوزيعنا نحن الضباط على قواطع الأنصار. كان م. س. يتواجد على الحدود الايرانية اثر معركة بشتاشان الأولى، حيث تم تنسيبي الى الفوج الثالث السرية الثانية (قاطع بهدينان) وكان الفوج متواجدا هناك للإسناد بعد بشتاشان، فشاركت في معركة بشتاشان الثانية التي كان من المفروض عدم خوضها.

استطيع التحدث عن أول مقر أو المقرات بشكل عام لأنني لم استقر في مقر فترة طويلة، وانما كنت أتواجد في المقرات فقط للاستراحة او لمهام، وأطول فترة نسبيا كانت عندما نسبت لقيادة الفوج الثالث بعد القصف بالسلاح الكيمياوي لمقر قاطع بهدينان.

 بعد العودة الى بهدينان عملت في السرية الثالثة التابعة للفوج الثالث والتي كانت مساحة عملها منطقة الدوسكي ومنطقة السندي في محافظة دهوك، وعملت فيها كمعاون آمر سرية، وكان آمرها الرفيق آزاد بهديني، ومستشارها الرفيق أبو عثمان. كانت السرية تتكون من مجموعة من الرفاق الرائعين مازالوا أصدقاء أعزاء على قلبي. أمضيت فترة ستة أشهر تقريبا في السرية، وقد ساهمت في أعمالها العسكرية وأتذكر منها كمين على مدخل مدينة دهوك، وقد حصلنا على غنائم بالرغم من صعوبة وخطر المنطقة. كما ساهمت السرية في صد تقدم قوات السلطة على منطقة الدوسكي، وكانت معركة كبيرة استمرت منذ الفجر وحتى ما بعد الظهيرة. ومن العمليات الكبيرة التي ساهمت فيها استطلاعا وتخطيطا وتنفيذا، هي عملية اقتحام ربيئة (كري علوچي) المشرفة والحامية لمدخل مدينة دهوك من جهة الدوسكي (فوق بحيرة دهوك حاليا). في هذه العملية واثناء الاستطلاع استطعنا ازالة حقل ألغام يحيط بالربية، وكانت العملية ناجحة لولا قصف السلطة للربيئة بعد معرفتهم بسقوطها. نفذت العملية قوة مشتركة من السرية الثالثة والاولى الفوج الثالث وقوة من رفاق الحزب الديمقراطي الكردستاني. ثم جرى نقلي الى السرية الاولى وعملت هناك لفترة طويلة، في البدء معاون آمر سرية مع الرفيق أبو ايفان والمستشار الفقيد سلام فواز، وبعد فترة أصبحت آمر السرية مع المستشار الرفيق أبو حامد. كان العمل في السرية من أفضل التجارب التي مررت بها، كانت سرية منسجمة وفيها مقاتلين أشداء من أبناء المنطقة من بامرني ومانكيش ومن الرفاق الوافدين مثلي. كان للسرية سمعة كبيرة في منطقة عملها، وكانت متميزة بين مفارز الانصار والبيشمركة في المنطقة، واستطاعت ان تغنم كثير من السلاح مما غطى تسليحها، وقامت بكثير من العمليات النوعية والكبيرة بشكل منفرد ومشترك مع السرية الثالثة وقوات البيشمركة لحدك. ومن المعارك التي  خضناها وكانت نتائجها كبيرة ومهمة، اقتحام ربيئة وغنم سلاح الربيئة، وكانت العملية مشتركة مع السرية الثالثة، وهي ضرب منظمة البعث في مانكيش وقطع شارع (سوارة توكة -سرسنك) قصف مواقع السلطة في مدينة سرسنك، ولكن هذه العملية كانت مميزة حيث قمنا بالقصف من منطقة صبنة وهي منطقة منخفضة عن سرسنك وكانت مجازفة كبيرة لو كشف موقعنا، ولكن الطريف ان المدينة كانت تقصف من جبل گارة، اي من فوق ولم يتوقعوا اننا كنا تحتهم، وعند بدء العملية قامت مدرعات السلطة بتوجيه نيرانها الى أعلى الجبل، فحرقوا الجبل، بينما اتممنا العملية بدون ان نلاقي نيران معادية.

ومن العمليات الكبيرة التي شاركت بها السرية، معركة (مانكيش) مع السرية الثالثة والسابعة وقوات حدك، فغنمت مدرعتين واحدة لنا والثانية لحدك، كما حصلنا على عيادة طبابة للاسنان ونقلناها الي مقر القاطع في (گلي زيوة) على ظهور البغال. هذا بالإضافة الى عملية اقتحام مطار (بامرني) لمرتين، في الأولى غنمنا مدرعة ايضا، وفي الاقتحام الأول لم أشترك في التنفيذ ولكني كنت مشاركا في الاستطلاع والتخطيط، وفي وقت التنفيذ كنت جريحا وفي طريقي للعلاج فلم أحظى بالمشاركة. أمّا في الاقتحام الثاني، فشاركت مع القوة المؤلفة من الفوج الثالث والأول، هذا بالإضافة الى عدد من العمليات الأخرى. كما وددت ان أشير الى معركة كبيرة اضطررنا خوضها ضد مقاتلي حزب ال (ب. ك. ك) المتواجد على الحدود التركية حيث قتلوا رفيقا لنا غدرا وبدون سبب، كذلك حاصروا مقر رفاقنا في السرية السابعة في منطقة (كيشان) لغرض الهجوم عليه، ولهذا توجهت السرية الى المنطقة مع مفرزة من مقر الفوج الثالث، واثناء وصولنا إلتقينا رفاقنا البشمركة من قوات حدك وطمئنونا على رفاقنا حيث كانوا قد انسحبوا حقنا للدماء، وترجونا أن لا نقاتل ال (ب. ك. ك.). وانسحبت القوة عائدة الى منطقة عملها (أنا شخصيا اعترضت على القرار وكان رأيي الذهاب مع قوات الديمقراطي الى مقر السرية والذهاب باتجاه انسحاب رفاق السرية السابعة). وبعد عبورنا الشارع الرابط بين زاخو وكاني ماسي قررنا المبيت في قرية (دريشكي) وهناك إلتقينا برفاق مفرزة القاطع وقد تجمعنا في جامع القرية لقضاء الليل ونظمنا الحراسات. وفي منتصف الليل فتحت علينا النيران ونحن نغط في النوم، فأُصيب الرفيقان (أبو اذار، ولقمان)، وكانت إصابة أبو آذار في الرأس، ففارق الحياة في اليوم التالي. كان المهاجمون ثلاثة، استطاع حراسنا أن يصيبوا اثنان منهم، بينما هرب الثالث. وفي الصباح الباكر قررنا ترك القرية لقربها من الشارع ومعسكر لواء باطوفة، ونحن في السرية اخذنا على عاتقنا حمل الرفاق الجرحى ولذلك كنا في مؤخرة المفرزة، لم نسر طويلا، واذا بنيران كثيفة تأتينا من الأعلى، كانوا قد نصبوا لنا كمينا قاتلا صعب الافلات منه، ولولا رفاقنا الأبطال الذين صعدوا باتجاه الكمين واستطاعوا القضاء على مجموعة الكمين لكانت خسائرنا كبيرة جدا، ومع ذلك استشهد لنا في هذه المعركة الشهيد أبو أياد وجرح الفقيد ابو الحق.  

بالعودة لحياة السرية الأولى، كانت مرحة جدا وحيوية جدا، كانت فترات الاستراحة تحت الأشجار تعج بالمزاح والضحك، وكنّا نحتفل بالمناسبات وأهمها ذكرى تأسيس حزبنا الشيوعي 31 آذار، وكنا نقوم بعمليات قتالية على شرف الذكرى بالإضافة للاحتفال الفني.                  

  في حياتي الأنصارية أُصبت مرتين وكلاهما ليست في المعارك، الاولى في مقر القاطع في مناورة تدريب حيث انفجر عليّ (اربي جي7) أثناء الاطلاق حيث كان ملغما من قبل السلطة، والاصابة الثانية جراء القصف الكيمياوي على مقر القاطع في زيوة، وقد أُصبت كما أُصيب الكثير من الرفاق. بعد الشفاء نسبت لقيادة الفوج الثالث مع الفقيد أبو شهاب مستشارا وأبو ايفان والرفيق أبو تغريد، واستطاع الفوج تنفيذ عملية اقتحام مطار بامرني الثانية بمشاركة الفوج الأول وسرية القاطع. كما شارك الفوج بعمليات (برواري باله). وبقيت في العمل الى ان توقفت الحرب العراقية الايرانية والتي جاءت بعدها حملة الأنفال سيئة الصيت (حملة ابادة ضد المنطقة والشعب الكردي)، واستطعنا تنظيم انسحاب لرفاقنا وللعوائل، كما ساعدنا كثير من سكان المنطقة للعبور باتجاه الحدود التركية. 

في الختام أود أن أقول، انّ حياة الأنصار، كانت غنية جدا، واستطعنا تحقيق الكثير رغم كثرة الأخطاء على الصعيد السياسي والعسكري، فهناك استطعنا أن نثبت لأنفسنا أولا، بأننا رجال نستطيع ركوب المصاعب الجمة، وكذلك لشعبنا ووطننا، اننا قادرون على التضحية بأنفسنا من أجل سعادته.