في عامي 1978 -1979 أشتدت الهجمة على منظمات الحزب الشيوعي، حيث حشّد النظام كل أجهزته القمعية ومنظماته الحزبية ووسائل إعلامه لملاحقتنا، وتعرض على أثر ذلك ألآلاف من المناضلين للأعتقال، وأصبح العراق عبارة عن سجن يطارد أصحاب الضمير الحي ودعاة الحرية، وعلى أثرها وجه الحزب ومن منطلق تقليل الخسائر والحفاظ على شبكة الكادر المغادرة من العراق بغية تضميد الجراح وإعادة بناء التنظيم. وهذا الموقف لاقى ردود فعل رافضة له من قبل أعداد غير قليلة آثرت البقاء ومواجهة عجلة الأرهاب البعثية الشرسة من خلال ميدان الوغى، أي من داخل العراق وكنت مع هذا الرأي، فكان نزالا قاسيا بين ما تمتلكه السلطة من قدرات هائلة جبارة وبين تنظيمات عارية من مستلزمات العمل السري ومكشوفة للخصم، وكان مصيري كما هو مصير غالبية المناضلين حيث أعتقلت بتاريخ 1/1/1997 وكانت المحطة الأولى مديرية أمن بغداد، وبعد العشرة أيام الأولى من التحقيق يبدو أنهم حصلوا على معلومات جديدة عني، خصوصا بعد أن عرفوا أني أبن هادي متروك الشيوعي المخضرم وصاحب الأضبارة الكبيرة لديهم، وعلى أثر ذلك إنتقلت الى المحطة الثانية وهي مديرية الأمن العام، وهنا بدأ مسلسل جديد من التحقيق، وكان بأساليب تعذيب سوف لن أتطرق لها حفاظا على  الذوق العام. 

أطلق سراحنا من خلال العفو العام الذي أصدره صدام بعد أزاحة البكر وكشف المؤامرة المزعومة، وكان ذلك بتاريخ 13/8/1979. خرجنا من معتقلات النظام الى فضاء السجن الكبير، حيث أنتقلت التحقيقات والملاحقات من قوى الأمن الى منظمات البعث في المناطق السكنية لغرض التسقيط، ومن هنا دخلت المحطة الثالثة وهي الصراع بين أن تكون حرا أو تفقد حريتك. أنا كنت عامل فني (فورمان) في تركيب وتشغيل المصاعد الكهربائية، وكنا في عموم العراق لا نتجاوز الثلاثين شخص وبسبب إنتشار البناء العامودي في ذلك الوقت تحول عدد غير قليل من هؤلاء الى ما سمي آنذاك (بالمقاول الثانوي)، لذا أصبحت عاملا ومقاولا ثانويا، وكان لي كذلك محل كماليات في أسواق المنصور المركزية، وكان دخلي الشهري قرابة العشرة آلاف دولار، أي أمامي مستقبل ذهبي في جني الثروة، وكانت عندنا عائلة جميلة من طفلين. أنها مغريات لحياة مرفهة، ولكن مقابل كسبك لكل هذه المغريات عليك أن تفقد أهم شيء بالنسبة لك كأنسان وهو حريتك التي هي أثمن شيء في الحياة.

وبعد أن شفيت من آثار التعذيب، فكرت بمغادرة العراق، ليس هربا وأنما بحثا عن الحرية، وكان ذلك في نهاية أيلول 1979 وكانت دمشق هي المحطة التي من خلالها ستكون العودة للعراق عبر كوردستان بأعتبارها النافذة لتحقيق الحرية. بعد الأتصال بمنظمة الحزب في دمشق، توجهت الى القامشلي لغرض تجهيز مستلزمات السفر الى هناك، وبعد أنتظار فترة ليست بالقليلة بدأت الرحلة آواخر 1981. أنها رحلة الألف ميل لأن طولها وتضاريسها وخطورتها ومدة أنجازها مناسبة لهكذا تسمية، وتصلح أن تكون مسلسل تلفزيوني طويل ومشوق. بدأت الرحلة من الأراضي السورية عبر الأراضي التركية وصولا الى بهدينان (دهوك) ومن هناك الى الداخل الأيراني ومنها الى الأراضي العراقية من جديد (أربيل) ومن أربيل الى سليمانية وكركوك، أستمرت الرحلة خمسة وأربعين يوما بلياليها مشيا على الأقدام، كان عدد المفرزة قرابة الستين رفيق ورفيقة، وحمولة كل واحد منا أكثر من ثلاثين كيلو غرام. تخيل قوة بهذا العدد تجتاز ثلاث دول معادية ومشرفة بقواها الأمنية على الطرق التي علينا تجاوزها بحيث أي خطأ ترتكبه يؤدي لأبادتها، وتأكيدا على ذلك في أحد الأيام تأخرت المفرزة بضع دقائق وأنكشف الفجر وكنّا في منطقة سهلية في الأراضي التركية، فظهر رتل عسكري على الشارع الذي كان يجب أن نجتازه، وكانت هناك مزرعة تبعد أمتارا عن الشارع، وهي عبارة عن مزرعة شلب أو حنطة أرتفاع الزرع فيها أكثر من متر، فأضطررنا الى البقاء فيها حتى مغيب الشمس، أي أكثر من عشرين ساعة كي نتجاوز هذا الخطر المميت، ولأستبيان قرب العدو كان بعض الجنود يتبولون على الطريق وكنّا نسمعهم. أما تضاريس الرحلة التي يمكن أن نسميها رحلة العذاب لأنها تجتاز آراضي سهلية طينية ولمسافة عشرات الكيلومترات يتخللها عبور لأنهر وبواسطة معدات بدائية جدا مرورا بمناطق ألغام أنتقالا لأراضي جبلية وعرة، وعلينا المرور بالمناطق الأكثر وعورة تجنبا للخطر، وبعدها مرة أخرى لأراضي سهلية وطينية وهكذا. وهذه المسيرة يجب أن تبدأ بدقيقة محددة وتنتهي بدقيقة محددة، وكانت غالبا ما تكون في ظروف العتمة الحالكة جدا بحيث أحيانا لا تستطيع رؤية أصبع يدك، وكان هناك صور مؤلمة بسبب المشي السريع والمسافات الطويلة على الأرض الطينية هي أن يفقد بعض الرفاق والرفيقات أحذيتهم ويقطعون تلك المسافات حفاة مما أدى الى أنسلاخ جلد القدم وعليهم الأستمرار بالمشي على اللحم الحي كما يُقال.

كان لتلك المعاناة صور مأساوية مازالت ماثلة لحد الآن في مخيلتي، وأهم أثنين في تلك الرحلة هم الدليل العزيز الذي يجب أن يسير بنا في المناطق الآمنة حفاظا على المفرزة، والثاني هو البغل العزيز الذي يسعفنا عند حالات التعب والأعياء والمرض. كانت أجمل اللحظات هي قهر العدو حين نجتاز مناطقهم الخطرة لأنها تشعرنا بالنصر، وكذلك لحظات دخولنا الآراضي العراقية واللقاء بالرفاق لأنها تشعرنا بالأمان وتطفئ نار شوقنا للتواجد من جديد في صفوف الحزب. ومن المفاجآت هو لقائي بالرفيقين الشهيدين أبو ميلاد وأبو الوسن. 

الرفيق أبو ميلاد ذلك العامل الشجاع بنظرته الفطرية، كان ذو حدس ثوري كبير، أتذكره حين كان يحظر الأجتماع في السبعينات وعند مناقشة فقرة العلاقات الوطنية، كان يبدأ رفاق أنا إلتقيت اليوم بأثنين من الفاشست، نعم كان يسميهم هكذا، كان يعرف تماما أن حلفائنا من الفاشست. حين إلتقيته في أربيل قبل أن نحضن بعضنا، قال: قسما بالله أني في كل يوم أقول أني سألتقي برفيقي المسؤول. له الذكر الطيب. أما الرفيق أبو الوسن، إلتقيت به لأول مرة عام 1974 حين رُحل الى تنظيمنا، وبعد الترحيب به سألته: رفيق ماذا تعمل؟، أجاب: شرطي!، حسبته يمزح، كررت السؤال عليه: قال: رفيقي آني شرطي لكن مو شرطي شرطي أنا رياضي بالشرطة!، ولكن لا يروح بالك بعيد أني سوف أتقاعد عن قريب. أصابني الذهول، رحبت به وقررنا أنضمامه للخلية، وعند عقد الخلية لأجتماعها وكان أبو الوسن برفقتي أول ما دخلنا للبيت وشاهده الرفاق، ثلاثة منهم أنسحبوا من الأجتماع لأنهم يعرفون أنه شرطي. حصلت فوضى فألغيت الأجتماع، وعند حضور الرفيق الأجتماع الثاني وهو بالباب قال رفاق أنظروا هذه وثيقة تقاعدي أنها لحظات لا تنسى له طيب الذكر. وبالعودة للرحلة، فأحد نتائجها أن كل رفيق فقد من وزنه على الأقل عشرة كيلو غرامات، وعند وصولي مقر المكتب العسكري تم تنسيبي لقاطع سليمانية وكركوك. عملت لفترة مستشارا سياسيا للسرية الأولى مع الرفيق عبا ماما وبعدها بفترة عملت مستشارا سياسيا للفوج السابع مع الرفيق علي كلاشنكوف. هذا مختصر لرحلة البحث عن الحرية.

ملاحظة : ألتقيت بأسرتي بعد ستة عشر عاما ونصف من الفراق، زوجتي وأولادي الذين فارقتهم في عمر السنتين. أنه حمل يكسر الظهر، كل ذلك يهون من أجل الوطن.