صفحات غير مطوية من الذاكرة

في العمارة المدينة التي تصحو على ثلاثة أنهار، دجلة وأبنائه الكحلاء والمشرّح، ولدت عام 1945 في محلة المحمودية.

جئت إلى هذا العالم قبل أن يحض بيتنا بماء الاسالة وبالكهرباء حتى بضع سنوات من مرحلة الدراسة الابتدائية. على نور الفانوس وفي أحيان يشع علينا نور اللالة، بلا قصد أو توجيه، بدأت أحبو نحو الرسم. كانت رسومات كتاب القراءة أولى محركات الإلهام.

كنت محظوظاً حين وصلت لصفوف الطابق الأول، لحظوتي بمعلم فنان قدير. الصفوف الثلاث الأولى كانت في الطابق الأرضي. كانت مدرسة السلام الابتدائية تطل مباشرة على نهر الكحلاء يوم كان مائه كالزلال.

برزت موهبتي في الصفين الخامس والسادس. كنت أنال تثمين الأستاذ عبد الأحد حين يعلق ما أرسم على لوح السبورة بعد أن يذيله بدرجة 100. صرت أزهو بهذا التقدير.

في المتوسطة كان لدينا فنان في النحت ملأ قاعة المدرسة بتماثيل كولياث وفينوس وشخصيات تاريخية أخرى، لكنه لم يولي مواهب الطلاب اهتماماً، رغم أن في ذلك الزمن، كانت المدارس تشترك في معارض فنية سنوية.

قبل ولوج عالم الثانوية، وبسبب وفاة أمي، اعتزلت الزقاق والأصحاب في عطلة الصيف واتفقت مع أخي إسماعيل أمين مكتبة العزير أن يوافيني كل أسبوعين بخمسة عشر كتاب في الرواية والقصة القصيرة. في تلك العطلة قرأت أكثر من مائة كتاب في الأدب العربي والعالمي فتطورت ملكتي الأدبية وبدأت بكتابة رواية.

في مرحلة الدراسة الثانوية بدأت أحول مادة الانشاء إلى قصة قصيرة ونال ذلك الأسلوب تثمين أستاذ اللغة العربية عبد المطلب، وتوقع لي مستقبلاً في كتابة القصة القصيرة.

وفي الجانب الآخر حين بدأت عرض بعض اللوحات التي رسمتها بالباستيل على مدرس الفنية الأستاذ منعم مسافر طلب مني الحضور بعد الدوام إلى مرسم المدرسة لبدء الرسم تحت اشرافه. هنا ارتكبت واحدة من حماقاتي غير المبجلة. رفضت! وكرر الطلب عدة مرات حتى أنه هدد بمعاقبتي، ولكن لم أتراجع.

في السنة الأخيرة من دراستي في معهد المدرسين العالي، عرف الدكتور عبد القادر البيطار، أستاذنا القدير ورئيس قسم اللغة الانجليزية، امكانيتي بالرسم. طلب لقائي في غرفة الأساتذة. أخبرني بانه سيقدم رسالة إلى رئاسة الجامعة يطلب فيها أن يتفرغ لمدة سنتين كي ينجز مناهج اللغة الإنجليزية، دون مقابل وحتى الإخراج والرسوم التوضيحية ستكون كذلك أيضاَ. وسألني:

  • هل توفق؟
  • أستاذ! على ماذا أوافق؟
  • أن ترسم المناهج من دون مقابل؟

ارتبكت قليلاً أمام هذا الثقل الكبير الذي حمّلني إياه أستاذي ولكني ركنت قلقي وقلت بثقة:

  • نعم أستاذ!
  • ستبدأ برسم الغلاف!
  • ليست لدي فكرة عن هذا، أستاذ!
  • سهلة! لاعب يركل كرة قدم لتنفجر مطلقةً حروف اللغة الانجليزية في الهواء.

بعد ثلاثة أيام قدمت الرسم ونال تقديره.

أخبرني بعد بضعة أسابيع بأنه قدم الطلب ومعه صورة الغلاف التي رسمتها ولكن رد الجامعة جاء مخيباً إذ طالبوه بأن ينجز الأمر إضافة إلى عملة التدريسي. وأجهض المشروع، ليس بسببي!

بعد سنوات انتقلت من متوسطة العشار عام 1968 إلى ثانوية المجر الكبير. طلب مني معلم الفنية المنسّب، الفنان زيارة، أن ارسم بعض اللوحات للمعرض. أعطاني لوح خشب وألوان زيت وضعتها على منضدة في قاعة الثانوية وبدأت. رسمت فتاح فال، لا أدري لماذا! في حينها، من خلال قراءاتي ومعايناتي الفنية، توصلت إلى اكتشاف هام يتعلق برسم الشخوص. فلبعث الحياة في الشخص ينبغي الاهتمام بحركة أدوات الكلام لدى الانسان والتي بدأت لديه بلغة العينين وبعدها لغة اليدين وثم لغة الشفتين. فاهتممت بالدرجة الأكبر بيده التي ترمي قطع الحجارة والأصداف. طلبت مرآة من زيارة وجمعت بعض الأحجار ورحت أجرب رمي الحجارة أمام المرآة حتى اقتنعت بحركة وتدربت عليها وبدأت ارسمها. لم تحض تلك اللوحة باهتمام زيارة رغم أنها عرضت في المعرض، بحيث حين سلم متعلقات المرسم للمدرس الجديد خريج أكاديمية الفنون الجميلة، قدم له لوحات، من ضمنها لوحتي على أساس من المتروكات لإعادة الرسم عليها. وسأله عن راسم اللوحة، فأخبره بلا مبالاة بانه مدرس اللغة الانجليزية السابق. طلب منه أن يعرّفه عليّ. وحين استفسر عن السبب، قال له:

  • ألم تلتفت لكيفية رسمه لليد وحركتها؟! يجب أن تعرّفني عليه بأقرب وقت!

أخبرني زيارة بذلك وحددت موعداً للقائه في بيتنا. حاول تشجيعي بإقامة معرض ولكني لم أستجب لإلحاحه.

انتقل أخي إسماعيل إلى العمارة وصار أميناً للمكتبة العامة الواقعة في محلة السراي حيث سبق وأن انتقلنا للسكن فيها.

كان من رواد المكتبة عدد من الفنانين الشباب وأحد معلمي الرسم المعروفين في العمارة.

اقترحت على أخي إقامة معرض للرسم خاص بالمكتبة، فسأل:

  • كيف؟
  • هل توافق؟
  • نعم، ولكن كيف؟
  • تحدثت مع بعض من رواد المكتبة ممن لهم شغف بالرسم وكذلك المعلم الفنان (س) وأبدو رغبتهم واستعدادهم.
  • كم يكلف ذلك؟
  • 200 إلى 250 دينار. متأكد أن المحافظ سيوافق على المقترح فورا.

وافق المحافظ وزاد من المبلغ المطلوب.

في قاعة صغيرة تابعة للمكتبة بدأ الشباب الرسم بإشراف المعلم الفنان.

حين اقترب موعد إقامة المعرض طلب مني المشرف على المعرض لوحة أو لوحاتي فأخبرته بأني سأنجزها يوم العرض.

بعد دراسة غير قليلة رسمت لوحة مائية صغيرة 30X20 سم لتمثال نصفي لامرأة.

في يوم العرض أثناء تعليق اللوحات قدمت رسمي فاحتج المشرف بأنه لا يستطيع قبول مثل هذه اللوحة، لأنه سيكون محرجا أمام المحافظ لو سأله عنها. قلت له:

  • عزيزي! أكمل تعليق جميع اللوحات ولو لم تجد لها مكاناً حرك سلة المهملات تلك وضعها في مكانها. ولست أنت المسؤول عن اللوحة، بل أنا، كما اسمي عليها.

سلمته اللوحة وخرجت صوب كازينو سيد علي الجوادي.

بعد بضع ساعات، فوجئت بقدوم مجموعة من فناني وأدباء العمارة متوجهين صوبي. وحين وصلوا بدأوا بمصافحتي وتهنئتي على تلك اللوحة الهامة والجريئة التي كانت تمثل امرأة من منظورين.

حاولت مع خط حرف الكتابة العربية ولم أوفق كخطاط، بل أتقنت رسم الحروف لمعظم أنواع الخط.

انتقلت إلى بغداد عام 1972 على أمل التقديم للدراسة المسائية في أكاديمية الفنون الجميلة التي افتتحت ذلك العام.

بعد عام، فوجئت باستحالة ذلك، بعد أن سألت عنها أساتذتها الذين أصبحوا أصدقائي، فأخبروني بقرار جامعة بغداد الذي يمنع تعدد الشهادات الجامعية باختصاصين مختلفين، لأن ذلك يحرم شخصاً من نيل شهادة جامعية.

أنهيت علاقتي بالرسم وتوجهت للفوتوغراف الذي استحوذ على معظم وقتي.

اقترح على الرفيق عز الدين، الذي يعمل محرراً متطوعاً في جريدة "طريق الشعب" في صفحة "التعليم والمعلم" أن أنظم إليهم.

في عام 1975 بدأت العمل في صفحة التعليم والمعلم.

عام 1978 غادرت صوب بلغاريا. وبعد ثمانية أشهر غادرت إلى الجزائر. منتصف عام 1980 غادرت إلى كردستان. عملت سنتين مقاتلاً في مفرزة زاخو التي سميت حين تشكيلها بـ" المفرزة 47" تيمناً بمناسبة تأسيس الحزب الشيوعي العراقي.

جرى نقلي إلى المقر في كوماته الثاني للعمل في اعلام قاطع بهدينان. واستمر عملي حتى عام 1988 حين بدأت عمليات "الأنفال" الإرهابية ضد قرى كردستان المتاخمة للحدود مع تركيا وإيران والبيشمر ﮔﻪ.

أمضيت عامين قاسيين في مخيمات إيران للاجئين. أمضيت ثلاثة أعوام في سوريا كمدير إدارة الاعلام المركزي للحزب. نشرت بعض القصص في الثقافة الجديدة ثم انشغلت فترة في رفد إذاعة "صوت الشعب العراقي" التي افتتحت في دمشق بموضوعات سياسية يومية، أذيع معظمها. نشرت عام 1990 مقالة  بعنوان " الأصالة والوجدان في شعر رشدي العامل" في جريدة الحزب الشيوعي اللبناني "النداء"، بعد أن وصلنا خبر وفاته في بغداد.

بعد أن استنفدت جهودي وجهود الآخرين في إيجاد عمل مناسب لمعيشة مقبولة قررت مغادرة سوريا إلى هولندا.

في هولندا بتشجيع من صديقتي الفنانة "ميكا ﭭﺎﻥ زندرت" عدت بتوجس للرسم، بعد أن تركته في عام 1975. الرسم كما باقي الفنون يحتاج إلى تمرين يومي متواصل وإلا تنحسر المهارة ويكون من العسير العودة إلى سابق عهدها.

افتتحت زاوية في صفحة الحزب الشيوعي العراقي بعنوان" تجربة الأنصار" واستكتبت عدد من الأنصار واستجاب عدد غير قليل. تجاوز عدد الموضوعات المنشورة المائة. مع الأسف البالغ أن الموقع الالكتروني قد تدمر وتوقف النشر في الموقع الجديد.

أنجزت كتابي عن تجربة الأنصار" أوراق من ذلك الزمن" ولم ينل اهتمام الحزب أو جمعيات الأنصار.

أنجزت مجموعة قصصية وروايتين أزمع نشرهما لو توفرت الفرصة لذلك وتعرفت على دار نشر تهتم بتوزيعها.

لدي رواية تاريخية، اعتقد من الصعب نشرها وفق الظرف الحالي.

أقمت معرضاً لرسومي التشكيلية في رواق مستشفى مدينة دنهاخ في قسم غسيل الكلى لمدة أربعة أشهر. لم تمثل الرسومات أسلوباً أو مدرسة محددة بل تنوعت بين الواقعي والسريالي والانطباعي والتجريدي والبوستر.