أدى التنوع المناخي في دولة الجزائر إلى تنوع المناطق الطبيعيّة فيها، فلو نظرنا إلى المناطق الساحلية الشمالية لوجدناها خضراء ذات سهول خصبة ومناظر خلابة رائعة بسبب اعتدال جوّها وامتلاكها غطاءً نباتياً مميزاً لوفرة الأمطار فيها , بالاضافة الى كثافة الغابات ووفرتها حيث تعتبر الجزائر من اكثر الغابات في الشرق الاوسط امتلاكا ناهيك عن المناطق الجبلية الوعرة ما ساعدت ثوار الجزائريين خوض الكفاح المسلح ضد الاستعمار الفرنسي بسهولة .

انطلقت الحافلة بنا صوب ولاية تيارت باتجاه الشمال الغربي من العاصمة جزائر وقليلا نحو الجنوب لملامسة الصحراء الغربية الجنوبية من البلاد , رغم ان المسافة لم تكن اكثر من 300 كم عن العاصمة ولكن بطئ حركة الحافلة وتوقفها في العديد من المحطات في طريقها مما زاد من عدد ساعات الوصول الى مركز ولاية تيارت حيث سنقضي اشهر في عملنا الوظيفي هناك .

وصلنا عصرا انا والرفيق ابو هيمن وبحثنا عن اقرب فندق وسط المدينة لكي نتجه في اليوم الثاني كل الى مكان عمله الوظيفي . مساء اثناء تجوالنا وسط المدينة وهي اساسا مدينة صغيرة اشبه بقرية متباعدة البنايات وعن طريق الصدفة تعرف ابو هيمن على احد اصدقاء مدينته كان اسمه " على ما اظن فارس " حينها قلنا فعلا العالم اصبح قرية صغيرة في هذه الاجواء الملبدة بكل التناقضات , تعانقا وعرفني على صاحبه , امضينا ليلتنا في ضيافته بعد ان علم سبب قدومنا الى هذه المدينة الصغيرة .

في اليوم الثاني اصطحب معنا الاخ فارس الى مكاني عملنا انا والرفيق ابو هيمن , دخلت على " عميد معهد التكوين المهني " وقدمت نفسي , رحب بي كثيرا واشار بان لديه علم بوصول الكادر التعليمي الى المعهد ليس فقط انا وانما بانتظار اخر وهو ايضا عراقي الجنسية , كان لطيف المعشر , يحمل شهادة الدكتوراه من احدى الدول الاشتراكية , يا شيخ اعطني مهلة اسبوع وتعرف على المدينة الى حين تجميع الطلبة لانه اصبح شهرين قابعين في بيوتهم لعدم وجود الكادر التعليمي بعد ان كانوا هنا مدرسين مصريين الغيت عقود العمل معهم لعدم كفاءتهم " يبدو ان الاخوة المصريين كانوا يحملون شهادات اشبه بشهادات مجلس النواب العراقي " , وسوف اوفر لكم سكن ضمن جغرافية المعهد والحديث للعميد , شكرته وقلت سوف التحق بالدوام حسب رغبتكم .

ثم توجهنا صوب مدرسة الرفيق ابو هيمن كمدرس لمادة الرياضيات , اجرى اللقاء مع ادارة المدرسة على ان يلتحق بالدوام في اليوم الثاني , عدنا ثانية الى وسط المدينة وقضينا وقتا ممتعا خاصة مع الاخ فارس الذي كان يبدي تعاطفه مع الشيوعيين والحزب الشيوعي العراقي .

الحافلة تاتي الى المدينة من العاصمة مرة واحدة في اليوم لذا كنا ننتظرها بفارغ الصبر بمن يستقلها وخاصة من العراقيين , امضينا ايام عدة نتجول في المدينة , نتعرف على ازقتها وسماع اهلها وكيفية تعاملهم مع غير الجزائريين , هذه الامور كانت موضع اهتمام كبير خاصة ونحن على موعد الاحتكاك بهم وباولادهم من الطلبة , علينا عكس صورة مشرقة للعراقيين وكيفية التعامل مع مفردات الحياة في هذه المدينة الصغيرة التي تحمل الاختلافات الكبيرة مع المدن والبلدات العراقية .

بعد يومين ونحن ننتظر الحافلة نزل منها شخص ادركت مباشرة بان لي معرفة بهذا الملاحم على وجهه , توجهت نحوه مرحبا بقدومه واذا به يعانقني بقوة , ها ما عرفتني ؟ صدمني سؤاله !!! قلت له انني اعرفك جيدا لكن دعني استرجع ذاكرتي قليلا !! يا الله عبد الحسين السميسم , صديقي وصاحبي تركته في المعهد الزراعي الفني في بغداد حين مغادرتي العراق عام 1973 ؟ اليس ذلك ؟ تعانقنا ثانية وقلت له ما الذي اتى بك الى هنا ؟ هل ذات المعهد الذي سوف اعمل فيه وانت الكادر التعليمي الاخر مما قاله لي مدير المعهد ؟ اجاب بالايجاب , قلت ما اروع الصدف وفعلا اصبح العالم قرية اكثر صغرا مما نتوقع , سنذهب الى الفندق اولا وغدا سنتوجه معا الى المعهد حيث مكان عملنا اللاحق .

بعد استلامنا للشقة السكنية , غرفتين وصالة كبيرة مع كافة مستلزمات السكن , يبدو الاخوة المصريين سبقونا في السكن في هذه الشقة المتواضعة .

جلسنا وتناقشنا حول كيفية وضع خطة لتقديم افضل ما لدينا من الامكانيات لتطوير المعهد بعد التعرف على النواقص وطرق التدريس , ياخذ صاحبي حسين السميسم الجانب العملي بالاضافة الى بعض الدروس النظرية وانا اتولى الجانب النظري في المكائن والالات الزراعية بالاضافة الى الرسم الهندسي المتعلق بالالات الزراعية , ما شجعني على العمل في هذا المعهد هو اغلب الاساتذة والمدرسين من الروس بحيث كان بالامكان الاستعانة بالكتب الزراعية باللغة الروسية والاكثر فرحة حصولي منهم على كتاب لمؤلفه ذات الاستاذ المشرف على اطروحتي لنيل الماجستير في المكننة الزراعية واصبح ذلك الكتاب المصدر الاساسي في التدريس لاحقا .