بعد ان قضت المفرزة ليلتها في محطة ابو حربي استعدت لمواصلة مسيرها قبل غروب الشمس بقليل من يوم 14 / أب / 1983 يقودها الدليل النصير يونس متي ( ابو آذار ) والشهيد الدليل التركي يوسف بايرام ( صوفي ) حتى جاء أبو آذار لكي ينبهنا.....

ــــــــ رفاق أمامنا مسيرة طويلة شاقة تستغرق يومين أو أكثر وستكون اختبارا" لقدرتكم على تحمل الصعاب ونحن ندرك أنكم كذلك،عليكم التقنين بالأكل وبشرب الماء، لا تبذروا قطرة واحدة منه، حاولوا التحمل جهد الأمكان، اشربوا الماء بغطاء الزمزمية ان استطعتم ذلك.

بدأت المسيرة بساعاتها الطويلة، صعود جبال شاهقة ونزول منحدرات خطرة وحادة، بان على الجميع التعب الشديد منذ الساعات الأولى وسط هذه الجبال والطبيعة الجرداء الخالية من كل مظاهرالحياة ووصل بنا الحال لدرجة لا نتمكن من مواصلة السير وحمل سلاحنا الشخصي وننتظر فرصة الأستراحة مهما كان قصرها والتي عادة لا تتجاوز العشرين دقيقة لكل عدة ساعات من السير في طبيعة جبلية وعرة ضيقة المسالك لم تطرقها الأرجل سابقا"، وأنا أسأل زوجتي النصيرة ام سوزان كيف نحتت أرجل البشر هذه الطرق الضيقة، كيف استدل هؤلاء الأنصار العرب خاصة من معرفة هذه الجبال والنجوم والسير فيها على ضوء القمر وهي ليست بيئتهم ...فحتما" انها الأرادة والعزيمة والأيمان.

في دقائق الأستراحـة كنت ادخل مع الرفاق في نـوم عميق ونحن نفترش العاقـول والنباتات الجبليـة الجافـة واضعين رؤوسنا فوق الصخور الحادة وكأنها فراش وثير مصنوع من ارقى انواع الحرير، والجميع يسمع الشخيير الذي يصدر عن البعض بسبب التعب مشكـلا" سمفونيات ذات انغام موسيقيـة متعاكسة مضحكـة، وكالعـادة يعلق دليلنـا الفقيد ( صوفي ) ضاحكـا" بأن طائرات الهليكوبتر بدأت بالتحرك. تحركنا من جديـد ولساعات لا اذكر عددها من شدة الأعياء ووصلنا الى محطتنا المتفق عليها بين الصخور لقضاء ليلتنا فيها.

ــــ رفاق سنقضي ليلتنا هنا حتى صباح غد، كل منكـم يرى المكان المناسب للنوم في هذه البقعـة، لا تبتعدوا عن بعضكم، يمنع التدخين، يمنع نزع الأحذية، نؤكد على التقنن بشرب الماء، السلاح بين أيديكم للحالات الطارئة ونؤكد على الهدوء رجاء.

عند ساعات الفجـر الأولى أستيقـظ الجميع مع النسـيم الجبلي البـارد وأنتهت ليلتنا التي قضيناها بين الأدغال والأحجار الكبيرة على سفح هذا الجبل، لم نفكر بتناول شيئا" حينها، همنا الوحيد كان اخذ أكبر قسط من الراحة والنوم. أخذ البعض من الرفاق يغسل وجهه ويديه بما تبقى لديه من ماء في الزمزميات غير مباليا" للساعات القادمة رغم التوصيات بهذا الشأن، ثم واصلنا من جديد المسيرة الشاقة، وبمرور الساعات يهدنا التعب والعطش من جديد وكأننا وسـط الصحراء وبدت أرجلنـا لا تقـوى على حملنـا، رفاقنـا الأدلاء أبـو آذار وصوفي يكرران قولهم بأننـا سـنصل إلى الماء بعـد نصف سـاعة، وتمر الساعات الطويلة ولم نسمع غيـر كلمة ( بعـد شوية رفيق) أو بعـد اجتيـاز هـذه القمـة..الخ، تحملـوا لم يبق غير مشـوار قصير ونحن على يقين ان الماء يبعـد عنا مسيرة ساعات طويلة أخرى وليس أمامنا من حل غير التحمل، وعندها يراودني قول الشاعر:

الى الماء يسعى من يغص بلقمة         الى اين يسعى من يغص بماء

الدليلان أبو آذار وصوفي يخففان غضب الرفاق المتعبين بكلمات لطيفة وتأكيدهما بأننا سنصل الماء عن قريب ويرفعون من معنوياتنا.. ويدركون متاعب الجميع فلهم تجربة طويلة مع معاناة مفارزالأنصارالجدد، بضع ساعات من السير المنهك وصلنا إلى قمة أحد الجبال، شاهدنا من هناك وفي الأفق أضواء مدينـة، أخبرنا الرفيق أبو آذار بأنها مدينة زاخو العراقية وهي أول مدينة نشاهدها داخل الوطن.

سماع هـذا الخبر أعطى الجميع الأمل بالمواصلة بعـد تلك المسيرة الطويلة التي لم نتصور أنهـا ستنتهي، فمرافقينا كانوا سابقا" يكررون وحفظــوا عبارة ( بعد نصف ساعة سنصل إلى...) وتمر الساعات ولم نجــد ما يوحي لنا بالوصول أما الآن فقـد أصبح بمقـدورنا أن نقول أننـا وصلنا الوطن ولقد أمدتنا اضواء مدينـة زاخو بالقــوة والمواصلة بنشـاط أكبر، فلا يهـم الآن كم يوم يفصلنا عن مواقعنـا، واذا أستشهد احدنا فنحن الآن في داخـل الوطن، سـاعات داخل الأراضي العراقيـة ولم نصل بعـد، وتصاعدت احتجاجـات بعض المتعبين نحو أدلائنا، ولكنهم أعادوا ذات العبارة التي سمعناها مرارا"، في هذه الأثناء أختفي صوفي وعاد بعد بضع دقائق وهو يقدم لكل واحد منا حفنـة من ثمار شجيرات برية حمراء اللون لا نعرف اسمها وهـو يقول لنا بأن هذه الثمار تقلل من العطش وتمدنا بالطاقة .

بمرور الوقت أخذنا نشاهـد بعض النباتات الخضراء ومن ثم بعض الشجيرات تزداد عددا" وأرتفاعـا" كلما تقدمنا الى الأمام حتى بانت أشجار كبيرة على جانبي الطريق ولكن لا اثر للماء، فوجود الأشجار دليل على وجود الماء والحياة، استمر هذا الحال حتى مساء يوم 16/ آب / 1983 حيث وصلنا الى ضفاف نهر سريع الجريان وفي مكان ضيق جدا" وذو أنحدار شديد يسمى نهر ( الهيزل )، أنه نهر الخوف والقلق كما يطلق عليه الأنصار، يقع هـذا النهر على بعـد 5 كم شمال غرب مدينة زاخو ويعتبر حدود العراق مع تركيا في بعض مناطقه، ولا يتجاوز عرض هذا النهر عن خمسة عشر مترا" في مناطقه الضيقة لكنه شديد الأنحدار والخطورة ويقع في اسفل سفح جبل ( سر زيارات ) ذلك الجبل المشهور بأرتفاعه ووعورته، الجميع يسرع غير مباليا" بالتعليمات بأتجاه النهر ليروي عطشه منه وملئ الزمزميات وغسل الوجه والشعر.

الساعة الآن تجاوزت التاسعة مساء، تقرر قضاء الليل والمبيت وسط اشجار الجوز والبلوط والصنوبر والسبندار المتفرقة والمجاورة للنهر والتهيؤ لعبوره صباح يوم غد، الأرض رملية باردة ورطبة جدا" بشكل دائم، الجميع متعب، تناولنا طعام العشاء وهو ما تبقى لدينا من الخبز الجاف، البعض من الرفاق بدأ يعد الشاي في العلب الفارغة الصدئة المتروكة وسط الأشجار منذ فترة طويلة، فعند التعب والأعياء تحس ان للشاي طعم آخر ويصبح فعلا" خمرة الثوار .

تمر هذا اليوم ذكرى زواجنا وأحتفالنا بهذه المناسبة هو من نوع آخر وغير أعتيادي، كانت أمنيتنا ان نقضي هذه الليلة في أحد المطاعم ونعيد ذكرياتنا كما تعودنا سابقا" أو ندعوا الأهل والأحبة لجلسة سمر نعيد فيها ذكريات لقائنا الأول وخطوبتنا ثم زواجنا ونشجع العزاب من شباب العائلة بالأسراع بالزواج قبل ان يفوتهم القطار، ولكننا الآن اننا امام واقع آخر وحياة جديدة، في رحلة للوطن لا نعرف هل سنحققها ام لا ؟ وكم ستطول ؟ وهل ستكتب لنا الحياة أم لا ؟ وهل سنلتقي بالأحبة من جديد ؟ وكحقيقة واحيانا" كنت احمل نفسي مسؤولية مرافقة زوجتي لي في هذه المهمة الصعبة ومعاناتها التي لا تناسب التكوين الفسيولوجي للمرأة عموما" ولكن الظروف التي مررنا بها هي من تحكم رغم عدم قناعتك بها احيانا" وهناك بالتأكيد أسئلة عديدة أخرى تشغل بال كل رفيق من رفاق المفرزة.

لا نعرف كيف علم الرفاق بالمناسبة، وزعت الحراسات الليلية وفق جدول معين، ساعة ونصف حراسة لكل نصير، لم تدرج اسمائنا بهذه القائمة، كهدية مقدمة لنا بهذه المناسبة وأعفائنا من الحراسات لهذه الليلة، انها هدية عظيمة لنا في هذا الوقت، ساعة نوم أضافية لها اثر كبير لراحة المتعبين، في فترة الراحة وقبل الخلود للنوم بدأ كل نصير يذكر ما يحلم به بعد سقوط النظام ذلك الحلم الذي تداوله الأنصار مرارا" حيث كنا نسمع ( أول عيد لرأس السنة الميلادية بعـد سقوط الديكتاتورية، سوف نلتقي عنـد الساعة الثانية عشر تحت نصب الحرية في ساحة التحرير)، كان هذا هو الحلم الذي يعبر به الأنصار الشيوعيين في السنة الجديدة. ومن الجانب الأخر تسمع تعليقا" مازحا" لنصير آخر ( والله راح تعمون على نصب الحرية ( هسه يسمع صدام ويشيل نصب الحرية من كاعه) وهناك من يرد عليه ( حتى لو سواها المجرم، سنعيد بناء النصب ونلتقي تحته، ليش احنه مو جزء من النصب، لا والله نحن الجزء الأساسي منه) . و تسمع تعليق آخر ( احنه ما النا علاقة خمسة، عشرة ، خمسين سنة وحتى لو قرن، هذا النظام هو ورأسه لازم نكسه إلى المزبلة).

افترشنا الأرض الرملية الرطبة ووضعنا طرف البشتين لكي يغطي وجوهنا من البعوض الذي لا يرحم، ثم دخلنا في نوم عميق لغاية فجر اليوم التالي حيث استيقظ الجميع على صوت الطائرات السمتية التركية وهي تحوم في سماء المنطقة، أحد الرفاق أخبرني انه في نوبة حراسته شاهد ثعبان اسود تجاوز طول المتر يمر من فوقي الى الجهة الأخرى ولم يحاول ايقاظي لعلمه ان الأفاعي السوداء غير سامة ولا ادري من اين جاء بهذه المعلومات وهو يؤشر على الأثر الذي تركته الأفعى على الرمال الرطبة.