بعد المضايقات التي حصلت في نهاية 1978، اضطررت الى ترك الجامعة والسفر الى خارج العراق، استجابةً لقرار الحزب بالالتحاق في مفارز الانصار الپيشمرگة. انضممت الى الرفيقات والرفاق الذين يودون الذهاب الى كردستان العراق، وبقيت شهر تقريبا في احد البيوت  الحزبية في القامشلي.

توجهنا لشراء ما نحتاجه لايام الدورة الشهرية فقط، فلا نستطيع ان نحمل اكثر من العليجة القماش على ظهورنا، هكذا كانت التعليمات لكي تسهل حركة الرفاق اثناء الانطلاق. ولخصوصية الرفيقات، فقد كان هناك احراج من التصرف بحرية، فكان عليّ ان اضع في حسابي عند الذهاب الى المرافق الصحية او السباحةوغير ذلك من الامور الخاصة ، لكن في نفس الوقت كنا نتشارك باحة البيت للنوم ليلاً وخصوصًا الجو حار في تموز من عام 1982 .

بدأنا المسير كمفرزة رفيقات يتقدمنا ادلاء الطريق. في اول ليلة، عندما عبرنا الحدود ودخلنا الاراضي التركية، تعرضنا الى قناص وتوجيه پروجكتر علينا، فبدأنا بالركض حتى ابتعدنا عن الخطر. ملئنا زمزمياتنا بالماء في الظلمة الحالكة ورحنا نشربه من دون ان نتأكد من نضافته، وفي الصباح وجدناه ماء آسن ازرق. بقينا في قرية عند احد العوائل الكردية التركية، لبسنا ملابسا نسائية كي لا يتعرف علينا احد، وقد اكرمونا بضيافتهم. 

باشرنا المسير بعد غياب الشمس ونحن في حيطة وحذر من الجندرية التركية، حيث اننا نمشي على سفح الجبل وهم فوق رؤوسنا، لكن في المناطق التي نوعاً ما آمنه كنا نغني باغاني فيروز وعبد الحليم، نأكل من الثمار التي على الطريق مثل التين والعنب. لقد عانيت والاخريات من الفقاعات التي ملأت قدميّ، وكنا نضع عليها نبات العفص اثناء الاستراحة، كما انني استخدمت احذية اكثر من النصيرات، كنت امشي بسرعة بحيث أحياناً اكون امام الدليل. وفي احدى المرات حاولت ان اختصر الطريق، فصعدت الجبل مثل (البزن)، لكن الرفاق نادوني بان اكون معهم. كنا ننام في وجه الصبح ونبدأ المسير في الغروب.

لقد سلكنا طريقا طويلا واكثر أمانا، لذلك استمر المسير عدة اسابيع. نحن النصيرات نتحرج من السباحة في الانهار، اما بالنسبة للدورة الشهرية، فهي متعبة جداً ومحرجة في نفس الوقت، وكنا ننتهز اية فرصة لاستبدال قطع الغيار وغسل الملابس ونبتعد بمسافة غير قليلة عن الرفاق.

وصلنا في منتصف الطريق لفصيل رفاقنا، لا تسعفني الذاكرة في ذكر الاسماء، بقينا هناك ما يقارب خمسة ايام، حيث توفرت لنا امكانية الاستحمام. وفي احد المرات، حيث كنا نخبز ونتحدث، ونتعرف على بعضنا ونتذكر ايام الجامعة، تبين ان بعض الرفاق لهم علاقة بزوجي ، ومن الفرح ركض احدهم خلفي حاملا  غصن شجرة ويصرخ : لماذا لا تقولي هذا من اول؟! .

انها فعلاً ايام لا تنسى، استمرينا بالمسير حتى وصلنا للخابور، ثم عبرنا بواسطة الچوب الى الجانب العراقي، وعندما وصلنا بكيت فرحاً وقبلت الارض العراقية، ثم واصلنا المسير حتى وصلنا الى اول فصيل في بهدينان. كان الوقت قد تجاوز منتصف الليل، استقبلنا الرفاق بالحفاوة والكرم ، قدموا لنا الجبن مع الخبز ، وهذه اول مرة نأكل فيها الجبن وليست المعلبات التركية.

واصلنا مسيرنا الى داخل القاطع في صباح اليوم الثاني ، وكان في استقبالنا الرفيقات والرفاق ، وبداوا ببناء الغرف لنا نحن البنات ، وبسرعة فائقة اكملوا البناء ، كل واحدة استلمت من المخزن ملابس وسلاح ، كنا نجلس مساءً نغني وننشد للحزب ومع بعض الاغاني العادية، ولاحظت بان الرفاق يمارسون حياتهم الطبيعية في اقامة المعارض واصدار النشرات الجدارية ، وكذلك تحرير الاخبار ، بقينا اسبوع في قاطع بهدينان، ثم تحركنا في احد الايام بمفرزة كبيرة الى پشتاشان.

استغرق الطريق الى بشتاشان عدة اسابيع، كان المقر مكون من عدة فصائل مقسمة حسب التخصصات. وفرت لنا الرفيقة السعيدة الخالدة موناليزا الحمام وخاصة للنساء وبجدول منظم. بقينا في فصيل المكتب السياسي حتى عرفنا طبيعة العمل حيث المقرات والمفارز القتالية ومهمات اخرى كثيرة، وكان هناك شعار مرفوع في وقتها العودة الى الداخل، حينها فكرت بهذا الجانب جيداً وخاصة من باب اعادة التنظيمات.

قدمت رسالة وضحت فيها الاسباب، ووضحت فيها كيف لي ان اعيش بسرية تامة في بغداد، وافقت القيادة على طلبي ولكن علي ان انتظر حتى تحين الفرصة . من طبعي لا أحب العمل الروتيني، الطبخ والخدمة اليومية فقط، فعملت في الطبابة وكنت اعمل الاسعافات الاولية حيث لدي خبرة في التمريض وزرق الابر وقياس الضغط.... الخ. ثم اخذت دورة مبسطة للعمل على اللاسلكي الداخلي بين المقرات وحفظت الشفرة وعملت في فصيل المكتب السياسي .

في مرة ما، خرجت مع السجناء لجلب الحطب، وكنت وحدي حاملة الكلاشنكوف ولم ارتعب منهم، كان عددهم اعتقد بالعشرين. وفي مرة اخرى جاء الى المقر رفاق من مكان آخر ويجب ان يقضوا الليل عندنا، فقرر الرفاق ان ينام بعضهم في كپرة الرفيقات حيث لا يتوفر مكان اخر، فبات معنا امر الفصيل وتبرعت ان اكون في اول الصف بالقرب منه وذلك لثقتي بنفسي وثقتي العالية بالرفيق امر الفصيل. وفي يوم ما جاء الوقت لكي اغادر  من دون رجعة.

تحركنا من احد المقرات الواقعة على الطريق بعد ان امضينا فيها يومين وتوجهنا الى مقر پيلسان بالقرب من الشارع العام المؤدي الى كركوك بغداد، في هذا المقر عملت في الحراسة الليلية والطبابة بالاضافة الى نقل الاخبار من الراديو وقراءتها على الرفيقات والرفاق وقت الغداء بالاضافة الى اداء مهمة الخدمة اليومية. كما شاركت في كتابة النشرات الجدارية والتحضير للاحتفال بيوم المرأة العالمي وشاركت في النزول للشارع العام وتوزيع المنشورات مع الحلويات وخاصة في مناسبة نوروز .

عندما حانت الفرصة للنزول الى الداخل، نزلت مع احد العوائل الى اربيل وضيفوني أجمل ضيافة ووفروا لي الحمام والملابس المدنية.  في صباح اليوم الثاني وصلني ابوهم الى كراج بغداد. عندما كنت اسير في شوارع اربيل واقرأ اللافتات ((نبايعك ياصدام))، ادركت قوة النظام وعرفت يده الطولى التي تمتد الى كل شبر من العراق ، فانزعجت كثيرا.

صعدت في السيارة ومعي كلوص سكاير، وفي احدى الپاكيتات حشرنا عدد من جريدة طريق الشعب، كان هناك تفتيش في السيطرة، وقدمت هويتي الجامعية وباندفاع الشباب لم يخطر في بالي اي من المخاطر ولا حتى عشرة بالمائة. وصلت الى بغداد وذهبت عند احد الأقارب حتى يوصلوني عند بيت اختي، سالوني من اين اتيت، فألفت لهم قصة من خيالي وكنت اعد الدقائق للوصول الى بيت اختي،  وعندما وصلت لم اجدها ، لكن حين عودتها سالتني لماذا اتيت، هل سلمت نفسك ام ماذا؟!.

بقيت عندهم، حينما عرف التنظيم في بغداد بقدومي التقوا بي وحملوني رسالة ان اوصلها للقيادة في كردستان، وبعد عشرة ايام رجعت الى كردستان بنفس الطريق ولنفس العائلة، لكن العائلة رفضت توصيلي بسيارتهم للمقر. حينها اعتمدت على نفسي، ومن الصباح الباكر ذهبت للكراج وصعدت في احد السيارات، لكن السائق وصل الى مكان خطر ورفض الاستمرار، فنزلنا واحترت اين اذهب، كان معي احد القرويين، وبكلماتي الكردية القليلة، اقنعته بان اذهب معه، فبقيت في كوخه مع عائلته حتى صباح اليوم الثاني.

تحركت، وكان الطريق مغطى بالثلج في بعض اجزاءه حيث يكون المشي متعبا. مشيت عدة ساعات في نفس الطريق الذي حفظته في ذاكرتي، فوصلت الى المقر، حيث تفاجأ الرفاق بعودتي. تحدث الي احد رفاق المكتب السياسي بعد ان سلمت له الرسالة وبقيت في المقر لعدة اشهر ثم عدت الى بغداد مرة اخرى.

زاولت العمل هناك، لكن يد الخيانة والتجسس لم تتركنا بحالنا حتى تم القبض علينا في احد الايام تباعاً وتم تعذيبي نفسيا وجسديا بطريقة اكثر من اختي، ثم حكم علينا بالاعدام وبقينا لمدة سنة وشهرين ننتظر التنفيذ حتى افرجوا عنا في احد الايام، وهذه قصة اخرى .

بالنسبة لتجربة كردستان، فهي فريدة من نوعها ولها طعم خاص في تاريخي، وانا افتخر بحلوها ومرها وجميع تفاصيلها المثيرة والغنية .