شق دوي انطلاق رصاصةٍ واحدةٍ من مكان ليس ببعيد، الضحيج واللغط والاصوات المرتفعة والضحكات والتعليقات، اطبق السكون وساد، وبشكل غريزي اتجهت العيون ثم الارجل الى مصدر الصوت.

في تلك الغرفة الدامسة العتمة، الخانقة بفساد الرطوبة، اختار ان يضع نهاية لاحزانه ولهفته وحبه. بعد ان فقد من كان مصدراً لاستمرار حياته وتحمل مشاقها وايامها الرتيبة. نظر الينا بعينين فارغتين مذهولتين وهو يرتعش،ارتخت شفتاه، ربما اراد قول شيئاً ما، لكن صوته خذله فأكتفى بهمهمةٍ مبهمة، كان جسده يختض وقد تدفق من مسامات جبينه سيل من العرق، قبل ان يتوقف قلبه عن النبض الى الابد!

توالت الصور والاحداث على ذاكرتي سريعة مزدحمة كالامطار حين عاصفة هوجاء. نظرته الصارمة واحداقه التي تكاد تقفز من محاجرها، عبوس وجهـــه الدائم، صوته الاجش، انطواؤه على نفسه، الغموض الذي يلتف بعباءته السوداء، ندرة كلامه او ابتسامته، حركات جسده التي تظهر ضيقة بروحه اللائبة، اصابعه وهي تنقل بيادق الشطرنج على تلك الرقعة المتهرئة.

زحف الغروب على ذلك الوادي الضيق، حيث تناثرت على احد سفوحه بعض الغرف الطينية، عندما ابتعدت الشمس جارة خلفها بعضاً من وهجها الارجواني في ذلك المدى القصي،احتضن جسده التراب البارد وضمه دون جنازة او تراتيل.

ازحتُ ستارة القاعة التي تعط منها رائحة العفونة والرطوبة مخلوطة بنتانة دخان السكائر والنفط والجواريب، هناك في الزاوية المقابلة للباب وتحت الفانوس الذاوي، كان يقضي لياليه، غائراً في نفسه المضطربة بهواجسها وامنياتها، جالساً على فراشه يدخن بنهم وبوجه متجهم، شعره الابيض الذي قلما يلامسه المشط، عيناه لا تتوقفان عن الدوارن كانهما تحصيان الانفاس وحركات النيام، لتشاركهم احلامهم. حينما ينعكس ضوء الفانوس على وجهه الطويل، يبدوا شاحباً بلحيته البيضاء غير المشذبة، يتوثب كلما سمع حركة خلف الستار، ليس للعفوية حيزاً في سلوكه وكلامه، مرتاب ممن حوله، شكاك في كل ما يسمع.

بعد الارق المضني، يحمل في الصباح رقعته البيضاء والسوداء باحثاً عمن ينازله، لايهمه ان يلعب تحت ظلال الاشجار في الصيف القائظ، او دفء شمس الشتاء، في الغرفة او الكهف، اوعلى سطح القاعة، في اي وقت من اليوم، كان يلعب الشطرنج بحرفية كبيرة و نادرا ما فاز عليه احدهم. خطته غالباً مُحكمة مبيتة، له خبرة في كشف ما يدور من افكار في ذهن منازله، واثقاً من ان قلاعه منيعة وخيوله قوية، يتقدم بجنوده كما يرسم ويصمم لهم، يركز نظراته عليهم، يحمي ملكه بكل بسالة، خوفاً عليه من كلمة " كش ملك"!

في كل مرة يلعب الشطرنج، يبدو كما لو انه مقدم على امتحان او اختبار صعب لابد من خوضه، غالباً ما يتحلق حول اللاعبين اثناء المنازلة من يهوى هذه اللعبة، قد يعطي احد المتفرجين الحق لنفسه بأبداء ملاحظة ما، حينذاك يكفهر وجهه ممتعضاً من كلام من احاط بهما، يهز راسه مستاءً وهويصوب له نظرة صارمة من عينيه السوداوتين الحادتين، حتى توشك حدقتهما على الخروج من قوقعتهما، يبدو كما لو انه سينقض على ذلك الذي بَيّنَ رأيه، ثم يزفرُ هواءً محبوساً في داخله، كاظماً غيظه دون ان يتفوه بكلمة، ورغم كل ما يبذله من تفكير وجهد من اجل الفوز إلا انه ما فرح يوماً به، مرات قليلة يصطنع الضحكة او الابتسامة .

كان يجلس بعيداً عن الاخرين وحيداً، لم يرفع لثام الغموض الذي يقنع به وجه ولم يغادر تقاطيعه الوجوم الموسوم عليها ابداً، مستغرقاً في تأملاته وشوقه الذي يقتل بهما الوقت البطيء الذي يعبث به .

استحالت الليالي التي يغيب فيها القمر الى وبالٍ عليه، فالعشو الليلي مصيبته التي لا يعلم بها إلا بعضهم، فهو ما افصح عنها لاحد. طال انتظاره وثقل على امل ان يكون القادم افضل، لكنه لم يكن سوى سراب، ليس سواه من يعرف سر المرارة التي كانت تؤرقه.

سعى قسم ممن حوله الى التقرب منه، الا انهم لم يجدو سوى ابواب روحه الموصدة ونظراته الحيادية الباردة والشرسة احياناً، ثم يرسم على وجهه ابتسامة غامضة ولا ابالية، دون ان ينبس ببنت شفة.

كما مرت الايام يذوي ويشحب ويزداد عزلة وانطواءً وانكماشاً على نفسه، غارقاً في دهمة روحه، طوراً يحدث نفسه بكلام لا يفهمه سواه، وطوراً يتخبط في ذاته وافكاره، قسمات وجهه تشي بالفوران في داخله، حركاته تدل على الارتباك والقلق، عاقر الكوابيس التي راحت ترافقه منادياً على اشباحه، يتطلع بنظرات مبهمة تدل على الريبة، يداه تُطوحان في الفراغ، كانهما تطردان اناساً امامه، بانت علامات الجنون واضحة عليه، حتى قادته خطواته نحو نقطة اللا رجوع فهناك لحظات يصبح معها الموت صبابة.