إفتتاح الطبيعة

من على قمة الرابية المطلة على قرية (كاني توو)، والمنطقة المحيطة بها، اكتب هذه السطور ... متوحدا، متحدا مع الطبيعة، في درجة عالية من مشاعر متقاطعة!

الساعة ألان 7:11 حسب التوقيت الصيفي، الأنصار ـ تحت ـ في القرية، ربما انهوا فطورهم، والذين صعدوا الى قمة الجبل ليلا، ما زالوا هناك يحمون ظهورنا. الموقف ما زال غامضا رغم الهدوء الظاهر، لم تصلنا تفاصيل عن أسماء الشهداء، الأمر باختصار لا تعبر عنه سوى كلمة واحدة: كارثة!!

فطرت بقدح شاي ثقيل عند الثالثة فجرا. أهل القرية متعاطفون معنا، يتعاونون بشكل طيب، واظهروا اهتماما بأخبار (بشت ئاشان)، ظل العزيز (ياسين) (1) طيلة المساء يحاول أن يجيب عن أسئلتهم بما توفر لنا من معلومات شحيحة، وشاركته الحديث بلغتي الكردية (المدخنة) حسب المثل الكوردي (2) !

اجلس ألان تحت شجرة بلوط عملاقة. اسند ظهري الى جذعها. لاستمد منها التوازن والقوة. أحاول أن ابعد عن ذهني اللحظة كل الأسئلة المؤلمة، أركز حواسي في مهمة الكمين، واتابع رفاقي الذين ينتشرون حولي على الرابية تحسبا لكل شيء!

ارتفعت الشمس وسيوف ذهبية أسطورية، من أشعتها تخترق الأغصان المتشابكة بعنف، تشق قلب البرد لتشيع دفئا لذيذا، ورغم ذلك لا تزال ثمة لسعة برد في الجو، أصوات أجراس الحيوانات وثغاؤها يأتي ممتزجا مع نداءات الرعاة وصراخهم! لتقول إن الحياة تمضي للأمام!

ألواح الأرض الواسعة الموزعة بشكل هندسي جميل، والمسقية حديثا، تلتمع تحت أشعة الشمس فتبدو وكأنها مرايا كبيرة الحجم. الزهور البرية، المنتشرة بكثافة، تلون الطبيعة بأجمل صورة!

أمامي يمتد سهل (شاره زوور)، سجادة خضراء لانهائية الأبعاد، جبل ( كوره كازاو) المطل على قرية ( حاجي مامه ند ) تلوح لي قمته ألان من بعيد مثل نتوء، كرأس قلم  مبري محاطا بالضباب الازرق الكالح، النسيم يهب رطبا منعشا ،  يثير في النفس شيئا من الراحة بعد ساعات طويلة من التوتر والترقب !

على اليمين قافلة من التراكتورات محملة بالصوف تمر مسرعة، الطيور بمختلف الأشكال والألوان تملأ الدنيا بموسيقى خالدة، ثمة (كه و) ينادي انثاه، لم يبد لي نداؤه حزينا؟

حقول القمح تتلون بأجمل ما يكون اللون، وطريق ترابي رمادي، يخترقها، يمتد رفيعا، يلتوي مرة، وأخرى، وأخرى، ويصعد ــ الى أين؟ ــ ويصعد، ثم يصعد، يختفي هناك، خلف تلك الصخور، عند تلك الشجرة المنفردة ، هناك حيث الطريق المؤدي الى المدينة !

آآآآآه ... المدينة!.

12 /5 / 1983

قرية  كاني توو ــ  ( ريف السليمانية ) 

الرهان

كنت قد انهيت حراستي توا، لففت نفسي جيدا، بالبطانية التي تفوح منها روائح لا أدرى ماهي وأسندت ظهري الى جذع شجرة بلوط. من ثلاثة أيام، ونحن نستعد لاستقبال هجوم متوقع للعدو على مواقعنا. كمائن الأنصار توزعت على الطرق المحتمل تقدم العدو منها، وكنا بأنتظارهم، نجلس، نأكل، ننام نتغوط، ...، وشواجير الرصاص حول خصورنا، وبنادقنا جاهزة للإطلاق.

من المكان الذي نكمن فيه، تلوح اضواء (سيد صادق) شاحبة، تثير جملة أسئلة عما يفكر ويحلم به الناس هناك، الناس المبتلون بدكتاتورية المجرم صدام حسين ونظامه. الناس هناك، ماذا يفعلون في هذه اللحظة؟ هكذا ترد الأسئلة! وتثير الاضواء، البعيدة، الشاحبة شيئا من حنين لحياة منزلية.  كان رفاقي ينامون بكل عدتهم، كل خلف صخرة، وعلى ضوء القمر الباهت كان حذاء أحدهم يلوح مثل بوز حيوان كريه، تملكتني رغبة قوية في أن انزع حذائي الذي لازمني طوال هذه الأيام، ليل نهار، تملكتني رغبة في أن أحرك أصابع قدمي في الهواء، لكن ... إلا يمكن أن يباغتنا العدو في لحظة تنفيذي لتلك الرغبة ؟ لحظتها هل يترك لي العدو فرصة لألبس حذائي؟ من يراهن؟ وإذ أجد نفسي استخدم كلمة (الرهان)  أتساءل : كيف يمكن للنصير الذي يحكم حياته قانون الاحتمال أن يتعامل مع كلمة (الرهان)؟ أيمكن للنصير أن يراهن على عيار الرصاصة التي ستحوله في يوم ما الى (سر الليل ) ؟ ( 3 ) ما الشئ الذي يمكن أن تراهن عليه بثقة؟ أيمكن للإنسان أن يدفع حياته ثمنا لرهان ما ؟ أيمكن ...

خريف 1983

سهل شاره زوور

1   ـ ياسين: الشهيد (ياسين طاهر حمه صالح) مواليد مدينة السليمانية، استشهد في معركة  قرية  (سويله ميش )  في 25 / 9 /  1983 في سهل شارزور ،  واستشهد ايضا في المعركة الرفيق جلال هونكريني، وتمكنت قوات المرتزقة ـ الجحوش من اسر الأنصار سامان ( ئاراس اكرم) ،محمد حمه فرج،  يوسف (كاظم عبد الحسن وروار)، وتم اعدامهم بعد يومين على شارع حلبجة ـ سيد صادق في مشهد استفزازي لجاهير المنطقة. 

2ــ ثمة مثل كوردي يقول (كورديه كي دوكه له ئه كات) أي: (كرديتك تطلق دخانا!) ويقال لمن لا يجيد الحديث باللغة الكردية!

3 ــ دأب الأنصار على اختيار اسماء الشهداء ك (كلمة السر) في الليالي للمرور والتحرك بين المواقع والمقرات.