شحوب الوجه، الذي تمتزج على صفحته الكآبة والانكسار، العيون الزرق المطوقة بهالتين داكنتين اصطبغ بياضهما بحمرة خفيفة تنسجم مع الكيان الهزيل الذي التصق بها، كخفاش أعجف، طفل يصرخ بإعياء حين تفلت حلمة الثدي الممصوص من فمه. كانت تهدهده بهمهمة مبهمة، توحي بأنه لم يبق في ذاكرتها شيء من ترانيم الأطفال.

النهار قائض تنفذ أشعة شمسه اللاهبة من نسيج الثياب لتلسع الجسد. الأرض تناثرت عليها حشائش وأعشاب برية تيبس بعضها قبل الأوان. التضاريس الجبلية المتماوجة في تلك البقعة كانت بلا أشجار ولا مغارات. والخيام لا تكفي إلا للقليل، فانتشر باقي الألوف في العراء. الأرض القاسية تحتهم والسماء المتقلبة المزاج فوقهم.

الليل زمهرير قارس تخترق برودته الثياب والجلد واللحم لتضاجع العظام.

راحت الشمس تنذر بالغروب حين أقعت على خرقة قماش كالحة وهي تنظر صوب الجنوب. الجسد النحيل يهتز بلا إيقاع. وليس واضحا إن كانت تهدهد الطفل أم إنها تلوب من ألم يعتصرها. انتفضت بفزع حين اصطدم بصرها ﺒ  دلير  وهو يجري صوبها ماسكا رغيفا مهشما. رمت الطفل على الأرض واندفعت لملاقاته. كان يلهث وخدش جديد على خده وكم قميصه مشقوق حتى الكتف. هدأت حين عرفت أن ذلك حصيلة الصراع اليومي للحصول على رغيف من الخبز الذي يرميه الجندرمة الأتراك من الشاحنات العسكرية ليتعاركوا عليه كالكلاب الجائعة.

قبل أن تهمد جمرة الشفق القاتمة، ثلمت كسرة من الرغيف ودفعتها إلى فمها. لاكتها بضع مرات ثم سكنت. وراحت تنظر نحو الجنوب لتتذكر الأيام المريرة. أولها ساعات الطلق.

أنَّت بصمت وهي تسأل السماء:

_ لماذا نحن من دون عبادك ؟

وراحت وهي تصعد الجبل تكرر نداءً تحاول أن تقنع نفسها بجدواه :

_ أجِّل هذا يا رب ! أما ترى كيف يطاردونا ؟

هدَّ حيلها تعاقب التعب والجوع والعطش، مع الخوف والآلام فانهارت متكومة عند صخرة كبيرة. جذب أنينها الموجع بعض النسوة. زوجها سمكو لا يدري ما يفعل ولا يسعه الطلب من الآخرين البقاء للمساعدة، فالموت يلاحقهم. وصوت انفجارات قذائف المدافع يدنو خلفهم، وأزيز الطائرات النفاثة يجرح القلب، وهدير الهليكوبترات يأتيهم كموج هائل يخنق الروح. كيف يطلب منهم انتظار الموت الذي يتبعهم بإصرار من كل الجهات. إنها القيامة. كيف يستوقفهم والناس في مثل هكذا يوم يلهجون من الرعب :‘ يا روح ما بعدك روح !، وهم ينوؤن تحت أحمالهم وخوفهم.

أسندت آواز ظهرها إلى الصخرة. صارت الآلام لا تطاق فأفلتت عقيرتها بالصراخ. لم يبق من النساء للمساعدة سوى ثلاث. سترنها ببطانية لتقوم واحدة منهن بفحصها على عجل، ولتلقي عليها بعد ذلك وصفة من النصائح لم تسمع أغلبها:

_ لا تتأخري.. قومي.. نصل الحدود بعد يومين.. اصبري.. اصعدي الجبل ببطيء.. تحركي.. سيقتلونك.. الله يعينك !

تركنها ليلتحمن بالفارين، الذين يجاهدون في إخراج الدعاء بالنجاة من بين لهاثهم، عسى أن ينجيهم كما المرّات الفائتة، متناسين كم حصد جنود السلطة من أهاليهم  ومعارفهم.

أسند سمكو ظهرها إلى الصخرة وراح يمسح جبينها المتعرق بالبشتين (1). التصق دلير وبفرين بخاصرتيها وهما ينشجان بإعياء. صوت انفجارات القذائف راح يدنو والدوي يأتي كدفقات من غاز خانق.

لا تدري كم من الذكريات بقيت في رأسها المشوش، وحين حاولت أن تتذكر كيف وصلت إلى كردستان تركيا، لم تسعفها الذاكرة التي راحت تلح عليها بصور وميض القذائف التي تنثر الأشلاء أو تمزق الأحشاء، صراخ النساء والأطفال الذي يخرم الأذن، ومخاضها الذي صارت كل الآلام جزء منه.

ثلاث نسوة صنعن من ثلاث بطانيات مثلثا حول آواز وامرأة أخرى. راحت تعض ذيل ثوبها لتكتم صراخها. نداء النسوة لها بأن تدفع بقوة يتبدد في الفضاء الصاخب قبل أن يصل أذنيها. وحين شعرت بأنها تتأرجح بين الموت والولادة، أمسكت رسغ خالتها بقوة لتقول لها:

_ سميها نرجس لو جاءت بنت.

أغفى طفلها وشفتاه تمصان بعضهما. ربما يحلم بثدي مترع. وضعته قرب دلير، الذي نام مبكرا بعد أن هدّه الركض وراء لوريات الجندرمة التي تقذف الخبز عليهم مرتين في اليوم، ثم تكومت قربهم متيقنة من أن وهنها سيعينها على النوم. ومن دون قصد راحت ترتحل من فجيعة إلى أخرى، وكأنها اعتادت على هذا القهر المضاف، أو أن عذاب الروح صار وكأنه سلوى. بيد أنها حين تتذكر نرجس، تتقزم كل الآلام والعذابات.

نرجس ممددة بين أحضان سمكو وقد اختلطت دماؤها وأحشائها بالتراب والبارود الأسود. حملها أبوها خلف صخرة كبيرة ليحميها من قذيفة أخرى. صرخ بآواز لتجلب الماء حتى ينظف جرحها. وبيدٍ مرتعشة مد أصابعه ليخرج شضية مسننة من الحديد الأسود. رفع رأسه ليحدث الرب إلا أنه فوجئ بعشرات العيون الدامعة تحجب عنه السماء. تضرع إليهم أن يبتعدوا ليتسنى له معالجتها. وأخرج من مزودته بعض الأدوات الطبية وضمادات وقطن وأبر ومطهر وانهمك بتنظيف الجرح من الدم والتراب والطعام. مد أصابعه المرتجفة ليخرج معييا مشقوقا، نظفه وراح يخيطه كما يفعل طبيب البيشمرﺔﮔ (2) حين كان يساعده في العمليات العسكرية أو في مستشفى المقر. نظفه مرة أخرى وأعاده إلى جوف البطن ثم نظف جرح البطن وخاطه. زرقها إبرة مضادة للالتهاب بعد أن لف بطنها بالضمادات. ليس ما يدل على إنها حية سوى قلب واهن الوجيب ومقلتان تتحركان تحت الأجفان، ربما تشاهد الآن انفجار القذيفة قربها وهي تملأ قنينة البلاستيك من العين، وربما تحلم بأن الذي حصل مجرد حلم، كابوس، ستفيق منه لتنطلق عبر دروب القرية المتموجة إلى المدرسة، أو لتجمع النباتات البرية، أو تلعب مع أقرانها. من يجرؤ على توقع ما تحلم به فتاة صغيرة مزقت أشلاؤها قذيفة مجرمة جبانة ؟ ألا يكفيها الهرب من الموت؟ وهل يهرب الأطفال من الموت؟ هل يعرفونه حتى يفروا منه ؟

سمكو يبكي بصمت وآواز تعوي كذئبة جريحة، وتلطم الأرض بكفيها تم تلطم وجهها. تحرك جفن نرجس وحاولت فتح عينيها. شفتها المزرقة أخذت تختلج. بلل سمكو خصلة قطن وراح يرطب فمها. فتحت عينها وأدارت مقلتها على كل المحيط، ارتجفت شفتها وكأنها تريد الكلام، ثم أسدلت الأجفان، وسكنت. توقف سمكو عن البكاء. صرخت آواز ثم انهارت كقطعة عجين.

استيقظت لتجد نفسها وحيدة. نهضت فزعة وهي تنادي بصراخ على ابنيها. تلقتها خالتها مهدئة:

_ سيموت ابنك إذا بقيت على هذي الحال. أخذته إلى زليخا. ترضعه.

أحست بالوهن. أقعت كهيكل عظمي مسربل بثوب وراحت تنتحب. عادت تهدئها الخالة:

  - أمر الله يا ابنتي ! لا ندري ما مكتوب لنا !

- أي أمر يا خالة ؟

- استغفري الله ! لا تكفري ! لديك غائبين !

- كيف ؟ ونرجس ؟ وسمكو وبفرين الذين لا يعرف إلا الله ما حصل لهما! وهذا الرضيع الذي سيلحق نرجس ؟

ثم راحت تحادث نفسها وكأنها تخاف أن تبوح بما تخشى لئلا تصدق ضنونها: ربما سمكو وبفرين قد أسرهم الجيش، أو اختنقا بغازات القنابل الكيماوية، أو ربما تاها.. ليتها لم تعبر النهر قبلهما. لو بقيت لماتت معهما، أو هم الآن سوية. هي لم تستطع الانتظار أكثر فالناس يصعدون الجبل بسرعة. المعركة حامية وأصوات الرصاص والقذائف قريبة. وصلت القمة بعد انتهاء المعركة بقليل وانتظرتهما عند منطقة تطل على نهر الشين. صخب الناس والحيوانات جعل نداءاتها على سمكو لا تصل أبعد من بضعة أمتار. جاءها أكثر من سمكو وطمأنوها مع غيرهم، بأنه حتما قادم إليها، أو يكون قد عبر الجبل من منطقة أخرى. أكدوا لها بأن المعركة اسفرت عن جرح اثنين من بيشمرﺔﮔ  الشيوعيين، الذين اقتحموا القرية والربايا التي يسيطر عليها الجحوش( 3). اقتربت منها عائلة من نفس قريتها شيرانة، وأخبروها بأن الناس لا تصعد من طريق واحدة، وعليها التحرك فالوقت ضيق وهي لا تستطيع الإسراع كما الآخرين.

كم تمنت لو أنها لم تسمع كلام الناس.

أعادت خالتها الطفل وهي تطلب منها أن تأكل من أجله. فردت عليها:

_ لو جاء ميتا !

لا تقولي هذا مرّة ثانية ! إننا نحتاجهم.. فقدنا الكثير.

تعالى صخب كبير من الطرف الآخر من المخيم، وحركة الناس صارت أسرع. توقعت أنها بسبب قادمين جدد، ربما يكون سمكو وبفرين معهم. راح قلبها يدق بشدة. جاء دلير وهو يعدو ليخبرها بصوت متقطع بأن الأتراك سينقلون نصف المخيم إلى إيران اليوم.

في لوريات مكشوفة شحنوا الأكراد. كدسوا الأكراد بلا عناية ولا ضمير.. لا كما يرصفون صناديق البضاعة برفق.. حشروهم كحيوانات ذاهبة للذبح.. ملئوا اللوريات بهم، والكرد يردون النفاذ من هذا الجحيم الذي يسميه الأتراك ‘ﺭﻔﮔ’ (4 ).. يتدافعون للذهاب إلى مصير مجهول.. تتقاذفهم أمواج الحقد.. يبحرون بلا قبطان ولا دفة.. تدفعهم رياح ملوثة بالسيانيد والخردل والفوسجين ( 5) وأنفاس الحكام.. لا يدرون بأي أرض سيحلون ولا أين سيدفنون.. حتى موتاهم بلا قبور وقبورهم القديمة سحقتها الدبابات والشفلات.. كل الطرق المفضية إلى داخل الوطن أو إلى خارجه صارت مقابر.. يتزاحمون عسى أن يصادفوا بقعة أرض يستطيعون فيها التقاط أنفاسهم ويحصون قتلاهم وموتاهم ومفقوديهم.

حتى الشمس تخلت عن ضميرها فراحت تلهب رؤوس وأجساد المحشورين في أحواض اللوريات، التي ناءت بثقلهم كل النهار وقسم من الليل، ليرميهم جندرمة الترك عند الحدود.. الحدود المقفلة. ففي الليل تغلق الحدود أمام النازحين. والجندرمة الترك، ربما نسوا أن يعطوهم ماءً أو خبزاً  في هذه الرحلة، وحتما نسوا هم أيضا الجوع والعطش، فقد خيم عليهم الليل بوحشته وظلامه وبرده، ولم يكتف بهذا بل سيوقظ المواجع والهواجس. وهجع بعضهم ملتحفا أسماله وأرق كثيرون.

مع خيوط الفجر الأولى نقلهم الإيرانيون بحافلات ركاب إلى مجمع زيوة (6 ) بعد أن وزعوا عليهم الماء والخبز وبعض المعلبات. قبل دخولهم المجمع كانت عيون حشود المئات من  المهجرين القدامى والجدد تحاول أن تتميزهم. راحت آواز تلتهم الوجوه ببصرها لأن هاجسا أنبأها بأن سمكو وبفرين بينهم.

اورداكَه خوي 1989

.........

(1) البشتين : حزام من القماش يلف على البطن في الزي الكردي – ويسمى شوتك أيضا.

(2) البيشمرﺔﮔ : المقاتلين في المناطق الكردية.

(3) الجحوش : الأكراد المتعاونون مع جيش السلطة لمقاتلة البيشمرﺔﮔ.

(4) ﺭﻔﮔ    : مخيم صنعه الجيش التركي للأكراد الهاربين من هجوم قوات صدام في ما يسمى بالأنفال سيئة الصيت.

(5) السيانيد والخردل والفوسجين : الغازات السامة التي تقذفها قنابل سلطة البعث على الأكراد.استخدمت أيضا ضد إيران.

(6)  زيوة   : مجمع لأكراد العراق الذين هجرتهم سلطة البعث عام 1975. قصفتها حكومة البعث عام 1985 فقتلت وجرحت المئات.