استراحتنا هذه المرة دامت اطول من المعتاد واستمرت عدة ساعات، واصلنا بعدها السير بعد منتصف الليل بقليــل، لا زال الجميع يحس بالأرهاق، نسيم الهواء البارد عنــد قمم الجبال يخفف من التعب والعرق بعض الشئ، علينا المواصلة طيلة كل هذه الليلة حتى صباح يوم غد حيث استراحتنا ستكون كالعادة على أحدى القمم الجبليــة، الحصى والصخـور الصغيرة المتناثـرة على الأرض تجعل من الصعب علينا السير بشكل اعتيادي تتخللها تعثر أرجلنا وسقوط بعضنا نتيجة لأجسامنا المتعبة وأرجلنا المتورمة ونحن نحسب الساعات لبزوغ الفجر .

الساعة تقارب السادسة صباحا"، وصلنا الى مكان أستراحتنا المقرر، بلغنا بالهدوء وعدم التدخين، جلسنا للراحة وتناولنـا ما تبقى من الأكل وبعض النباتات والحشائش البريـة، علينا الأستعداد بعـد ذلك لمواصلة الرحلة بأتجاه موقع الأنصار التالي الذي من المتوقع ان نصل اليه مساءً كما يؤكده دليلنا. ساعات مرهقة من السير طيلة النهار وسط طبيعة شبه خضراء وشمس ساطعة حتى وصلنا الى منطقة (سناط) التي تسمى بالسريانية (أسنخ) الرائعة في جمالها وبالسلاسل الجبلية المرتفعة التي تحيط بها أشجار الغابات المختلفة، ولكن لا وجـود للبشر فيهـا، فقد هجّر النظام الدكتاتوري اهلها في فترة السبعينات واعتبرها منطقة عمليات عسكرية محرمة. الوصـول الى قرية (سـناط) العراقية المهجرة يعتبر بحق مجازفة كبيرة بحد ذاته حيث الألغام والربايا العسكرية فوق القمم الجبلية المشرفة على الوادي الذي نسير فيه وقرب عين الماء المرصود من قبل الربيئة حيث عادة ما تقصف هذه العين عند مشاهدة أية حركة يرصدها الجنود بنواظيرهم. وسبق ان سمّمت عيون الماء في هذا الوادي من قبل السلطة وفي أماكن عديدة يتردد عليها الأنصار وعلينا الـتأكد من نظافة الماء قبل الشرب منه وللأنصار خبرة في ذلك.

انتشرت المفرزة بين الصخـور والأشجار لأخـذ استراحة قصيرة مع التنبيه للجميع بعـدم التدخين والحركة وإشعال النار. احد الرفاق بادر الى التدخين مخالفا التعليمات راميا عقب سكارته كالعادة على الأرض بدون أكتراث، وبسبب عدم وجود الخبرة، ادى ذلك الى أحتراق الأعشاب الجافة القريبة مسببا "دخانا" متصاعدا يمكن مشاهدته عن بعد معرضا المفرزة لمخاطر كبيرة، ولكن سرعان ما تمت السيطرة عليها. بلغنا بترك عين المـاء والأبتعاد بسرعة ونحن على يقين ان الربيئة قـد رصدت حركتنـا وشـاهدت الدخـان عن بعـد. وبعد مرور حوالي عشرة دقائق بدأت قذائف المدفعية تتساقط على المنطقـة المحيطة بعين الماء ولا ندري فيما اذا كانت مفرزتنا هي المستهدفة بهذا الرمي من قبل الربيئة التي تراقب عين الماء بأستمرار أم لا !، ولكن الحـظ لعب دوره هذه المرة في نجاتنا من الموت وبسبب خطأ يعتقد البعض من الأنصار أنه بسيط بسبب قلة الخبرة والتجربة الأنصارية والأستهانة بالتعليمات .

بعد الأرهاق الذي أصابنا وقبل غروب الشمس بقليل من يوم 18 / آب / 1983 وصلنا الى أول محطة أنصارية تابعة للحزب داخل الأراضي العراقية وهي (محطة وادي كيشان) القريبة من الحدود التركية، الموقع محاط بالأشجار من كل جانب ويقع بالقرب منه جدول صغير ناتج عن ذوبان الثلوج على قمم الجبال المحيطة.

ظهر الأنهاك والهزال على الجميع، الأرجل متورمة ولا ندري كيف حملتنا طيلة كل الأيام الماضية، وجدنا صعوبة في خلع احذيتنا، وظهرت على أقدام بعض الرفاق الجروح المتقيحة، عشرات من رفاق المحطة المسلحين رحبوا بنا على سلامة الوصول ووفروا لنا الماء البارد للشرب والساخن لأرجلنا المتورمة .

في ذلك الوادي وعلى القمم المحيطة به وعن بعد كنا نرى الربايا الحكومية، وفي مدخله شاهدنا مناظرا" ملـئت قلوبنا حزنا" وأسى، بقايا ومخلفات العوائل التي تركت الوادي على عجل وهربت من الهجوم التركي في آيار 1983 الذي شمل تلك المنطقة بسبب الأتفاقية الأمنية بين تركيا والنظام السابق والتي تنص على دخول جيوش البلدين الى داخل أراضي كل بلد لمسافة اكثر من 10 كم لمطاردة البيشمركة والأنصار في كلا البلدين، شاهدنا ملابس الاطفال بألوانها الزاهية وفرش النوم البالية وكثير من الأفرشة الممزقة، وحول منابع الماء الغزير تركت تلك العوائل المزارع البسيطة التي زرعتها للتزود بالخضراوات وللتغلب على حالة الحصار العسكري والأقتصادي المفروض على المنطقة من قبل الحكومتين العراقية والتركية. قضينا ساعات بين تلك الخرائب لغرض ايجاد مكان ووسيلة للأستحمام بعد رحلتنا الطويلة، لم يكن عدونا في وادي (كيشان) هو القوات العراقية أو التركية التي تقصف المقر بشكل متواصل فحسب، بل البعوض والازعاج الذي يسببه للجميع وافضل طريقة للتغلب عليه هو بابقاء النار مشتعلة في روث الحيوانات وما ينبعث منه من دخان يحول دون اقتراب البعوض .

بعد أستراحة قصيرة تناولنا العشاء الآنصاري كالعادة، وهو عبارة عن طماطم مقلية بالدهن مع رغيف خبز وقدح من الشاي وهذا افضل ما يقدم للأنصار الجدد في مثل هذه المواقع. وبعد ذلك جاء من يحدثنا :

ــــ رفاق عليكم ان تواصلوا مسيرتكم عند منتصف الليل ولا يمكنكم المبيت هذه الليلة هنا، عليكم التهيؤ للمواصلة بأتجاه القاطع بعد أخذ قسط من الراحة، موقعنا خطر ولا يسع لرفاق آخرين.

ـــ ولكني اعترضت بقولي .. ولكن يا رفيق عليكم أن توفروا لنا أرجل وأقدام جديدة بدل أقدامنا المتورمة، أنظر الينا هل نستطيع السير ونحن على هذا الحال وهناك بعض الرفاق يحتاجون علاج لجروحهم المتقيحة .

كان المنظر مؤلم لمسؤول الموقع العسكري وهو ينظر الى تقيح بعض الجروح .....

ـــ حسنا" رفاق لننتظر يوم آخر لتأخذوا قسطا" أكبر من الراحة فقد يتحسن وضعكم الصحي، سأتصل لاسلكيا" برفاق القاطع لأبلغهم بالأمر وعدم تمكنكم من المواصلة لهذه الليلة.