طبّاخة

كبرت في بيتنا مع مهمة غسل الصحون و غيرها من عدة المطبخ، اتذكر اول مرة وقفت امام مغسلة المطبخ كنت صغيرة، ربما في الصف الثالث الابتدائي،  وذلك بعد عناد بين أخواتي الاكبر مني بخصوص غسلها، وحلاً للإشكال ذهبت دون ان اقول شئ واخذت  تخته خشبية، من التي نجلس عليها أيام زمان، ووقفت عليها كي أصل الى المغسلة وحنيفة الماء، وبدأت بغسل الصحون، لحظات ورأيت أختي تقف بجانبي. هكذا كان أول درس لي بغسل الصحون. فيما بعد عندما كبرت صارت مهمتي الثابتة في البيت.

أما الطبخ فلم أتعلّمه، حتى إني حين خرجت من العراق في عمر الثالثة والعشرين كنت لا أعرف أكثر من تقشير الخضرة و تقطيعها، غسل الرز، يعني شغل صانع صغير. وهذه مشكلة واجهتها، كما الاخرين، مع إنضمامي لحركة الأنصار، إذ كان عليّ أن أتعلم طبخ بعض الوجبات، مرق الفاصوليا أو الحمص، شوربة عدس، الرز ، صناعة لبن من حليب النيدو، و هذا الاخير ، اللبن، عليك أن تطلب تدخل البارعين في صناعته. في البداية كانوا الأنصار الأقدم يقدمون المساعدة للجدد منّا. مهمة خفر الطبخ كان يطلق عليها "الخدمة الرفاقية". ممكن أن يقوم بهذه المهمة رفيق او رفيقان، يتوقف ذلك على عدد الرفاق في الفصيل.

أتذكر في إحدى المرات، في الاشهر الاولى لي في الجبل كنت حينها في فصيل الاعلام المركزي، تركني الرفيق الذي كان معي في مهمة الطبخ في ذلك اليوم بعد الانتهاء من وجبة الغداء، تركني قائلا لي ان اتولى تحضير شاي العشاء. مع إقتراب وقت العشاء عدت الى مطبخ الفصيل لاقوم بإعداد الشاي، قمت بمحاولات عديدة في إيقاد النار، محاولات أعمتْ عينيّ بالدخان وتبخر الوقت خلالها، مهما غيّرت من وضع الحطب ومهما نفخت وحرّكت الهواء (هفّيت) لم انجح بإشعال النار، و لم يصادف أن مرّ رفيقٌ ما على المطبخ كي استنجد به في هذه الورطة، وقت العشاء يقترب و وعاء الشاي كبير جدا والنار لم تشتعل. في النهاية وانا أوشك على البكاء ذهبت الى الغرفة التي يعيش فيها الرفيق الخفر الذي معي، الرفيق ابو بشير، دخلت الغرفة التي يسكنها آنذاك مجموعة محرري القسم العربي لإذاعة الحزب (اذاعة صوت الشعب العراقي). وجدته في نومة القيلولة، اوضحت لمن هناك انني فشلت في اشعال النار و احتاج مساعدته، نهض الرفيق ابو خالد (الكاتب فالح عبد الجبار) قائلا "دعيه يكمل نومه، سأساعدك انا". أبو خالد اعرفه و اعرف عائلته من سنواتي في براغ. عند موقد المطبخ اعطاني اهم درس في ايقاد النار و هو يقوم بإعادة ترتيب الموقد قال لي " اهم خطوة ان تنظفي الموقد من الرماد تماما". طبعا الموقد كان مليئ بالرماد الذي خلفته نار وجبة الغداء، اخذ الحطب يشتعل وتصاعدت النار، شكرتُ ابو خالد قبل ان يترك المطبخ، ربما شعر بالأسى عليّ، بنت دلال و تعيش في هذه الظروف، و من منّا لم يكن مدلل في بيته و مع عائلته؟!

مع مرور السنوات وتراكم التجربة اصبح إشعال النار اسهل شئ، وتطورتُ بالطبخ بشكل ملحوظ، لكن بقى بعض الرفاق ولأخر سنة لي في حركة الكفاح المسلح يقولون مازحين ( بخفارة سمر ناكل نظافة)، لان كنت أقوم بتلميع القدور الكبيرة و أكنس المطبخ وما يحيطه و أرشه بالماء في أشهر الجفاف، بالمقابل احصل على مساعدة الاخرين في اعداد الاكل او اشرافهم كي يكون الطعام قابل للاكل، اتذكر الرفيق عايد في فصيل الحماية في قاطع بهدينان كان دائما يساعدني بطبخ الرز. طيلة سنوات وجودي في جبال كردستان كنت من المجموعة التي تقوم بخفارة الطبخ، بإستثناء ما يقارب السنتين، كنت فيها من مجموعة الخبّازين.

خبّازة

بعد مرور السنتين الاولى في اداء مهمة الطبخ بالتناوب مع مجموعة من رفاق الفصيل، توجهت في أحد الايام الى آمر الفصيل، الذي يقوم بتوزيع الواجبات اليومية وطلبت منه ترقيتي الى خبّازة، قبل يوم كنت قد انفجرت عصبية لان البعض ترك اقداح الشاي ( من البلاستك) هنا وهناك وكنت قد غسلتها حتى ظهر لونها. كوّني لا اُجيد الخبازة كانت حجة في عدم اعطائي هذه المهمة، لكني لم اكن أجيد الطبخ وقد تعلمت ذلك، اذن استطيع ان اتعلم الخبازة. هناك فرق كبير بين المهمتين، الخبًاز يحضر العجين مساءا وينهض فجرا وينتهي في وقت اقصاه ساعات الضحى، في حين ان الطبّاخ تأخذ مهمته النهار بأكمله من الصباح الباكر الى المساء بعد العشاء، و يكون على احتكاك بكل الرفاق خلال النهار، في اشهر الشتاء يأتي البعض يأخذون قطع جمر من موقد المطبخ لاشعال التدفئة في الغرف وبعضهم يخرب كل النار، البعض لاهمال او نسيان لا يغسل صحنه او قدحه، وكل هذا يجعلني اغضب، احيانا انفجر بالكلام، واحيان اخرى اكتم غضبي و عصبيتي تبقى بداخلي.

كنت قد شاهدت كيف يخبز الخباز عندما كنت طفلة صغيرة، اذهب مع احد اخوتي لشراء الخبز للعائلة، أكثر من كان يشدني هو الشخص الذي يقف امام فوهة الفرن، فتحة تتوسط جدار، يرقص امام هذه الفوهة وهو يخبز، في حركة متواصلة تتبادل خلالها قدماه ملامسة الارض وكأن جمر الفرن ليس داخل هذه الفتحة بل تحت قدميه. بعد سنوات طويلة اكتشفت سرّ هذه الحركة عندما وجدت نفسي وبدون تفكير أقوم بنفس حركة الخباز في كل المرات التي تطول فيها وقفتي في المطبخ، اكتشفت انه بحركته تلك كان يخفف من ثقل جسده على ساقيه و يتجنب ألام الظهر الناتجة عن الوقوف في يوم عمل طويل. ولا انسى ايضا اول من شاهدتها تقف عند التنور في فناء دارها، جارتنا ام سامي، الدار الواقعة تقريبا امام دارنا في دربونتنا، كانت ام لصديقاتنا، اعمار بناتها نفس أعمارنا انا وبقية اخواتي، احيانا يصادف نكون في سطح بيتنا واراها وهي تقف عند التنور وتخبز، اراقبها و تدهشني نقلها العجينة بين راحتيها بحركة سريعة دون ان تسقط منها او تتمزق و تبقى بشكلها المستدير.

شاهدت ايضا رفاقي الخبّازين و اعرف كل الخطوات، العملية تبدو  سهلة للمشاهد ولكن سأكتشف فيما بعد انها اصعب مما تبدو، على الاقل للخبّاز المبتدئ، كما كان الحال معي.  بعد إلحاحي على ان اكون ضمن مجموعة الخبازين ابدى احد الرفاق  الرفيق (ابو سهيل) استعداده لان اكون خبّازة معه كي اتعلم، ففي فصيل الاعلام كانت مهمة الخبازة يتعاون عليها رفيقان في كل يوم. كنّا نعجن انا والرفيق الذي معي (طشت) كبير يكفي لكمية خبز لوجبتي  الفطور و العشاء او لثلاث وجبات. وقفت متحمسة للتعلم، تصاعد الدخان وبدأ أنفي يسيل بسببه، اخذت منديل من جيبي وابتسمت إذ تذكرت موقف في پيشتاشان ١٩٨٢ مع رفيق لاول مرة التقي به، الرفيق عبوسي (اعلام) كان خبّاز وكنت انا جديدة في اجواء الحياة الانصارية، قلت حينها انه الافضل ان يكون المرء خبّاز ، وتفاجئت برد عبوسي ( الذي اصبح فيما بعد احد اقرب اصدقائي هناك)، إذ قال لي وكان هناك رفاق آخرون ( تره مو اي واحد يصير خبّاز، لان اهم شرط لازم الخبّاز يعرف شلون يمخط بدون ما تتوسخ ايده) ووضع إبهامه على احد منخريه مكتفياً بهذه الحركة للتوضيح، ضحك الجميع و ضحكت انا ايضا متفاجئة من خشونة الحياة التي تنتظرني هنا. بعد فترة من العيش في نفس الفصيل تعرّفت على طباع الرفيق عبوسي،  "دهري" وصادق وأريحي وعصبي.

تعلمت كل ما يتعلق بالعجين و كانت صورة جارتنا ام سامي امامي وانا انقل العجينة بين راحتيّ يديّ و افرشها على (مخدة) التنور . المشكلة كانت عندما بدأت بوضع الرغيف على جدار التنور، ادخل يدي بسرعة واسرِعُ بإخراجها بسبب حرارة التنور ، فتسقط الخبزة على الجمر، نلتقطها بماشة التنور ونرميها جانبا ( معقجة ومحروگة)، يعني ربما كنت سبب في خسارة اقتصادية، ولكن حيوانات الحمل( بغلان) كانت  تأكل كل الارغفة الفاشلة و المتفحمة حتى ان الرفاق اخذوا يتندرون عندما تُقرأ بعد العشاء واجبات اليوم التالي ويُذكر اسمي خبّازة، كان الرفاق اصدقائي يقولون ( باجر البغال إطگ اصبعتين، لان سمر خبّازة) (راح يشبعون خبز محروگ)، ونغرق في الضحك. لكني تعلمت الخبازة وعلّمت آخرين.

بعد فترة من تعلمي صنعة الخبازة، اقف خبّازة مع الرفيق عبوسي، الطريف في الموضوع هو عندما أيقضنا الحرس قبل الاخير للشروع بالخبز فجرا إلتقينا في مكان التنور وجدنا بعض الاوراق قد ثُبتت على حائط الفرن وعلى اشجار قريبة من التنور، سلطنا عليها ضوء اللايتات وقرأنا عدة عبارات تحذير مختلفة ( لا تمرّوا من هنا) ، ( أحذروا تيار عالي) ( منطقة توتر ) ( الطريق من هناك ) مع اوراق رُسِمت عليها اسهم لتغيير طريق المارة، هذه الاوراق علقوها اصدقائنا الذين يعرفون عصبية عبوسي وعصبيتي، أو ربما لاني لم اكن بعد أُتقن المهمة واكيد عبوسي راح يلزم اعصابه. بدأنا مهمتنا ونحن نضحك منذ الفجر، وتوقف كل الرفاق الذين مروا للذهاب الى الفطور، قرأوا الاوراق، علقوا ضاحكين مبتسمين.

حياتنا الانصارية كانت قاسية لكنها لا تخلو من الفرح الانساني، يعني مثل ليل مظلم لكن سمائه مليئة بنجوم متلألئة.