في الأشهر الماضية بذلت جهود كبيرة من قبل رابطة الأنصار الشيوعيين وجهات عديدة اخرى للبحث عن قبور الشهداء الأنصار الذين استشهدوا في مجزرة بشت آشان ومعارك أخرى عديدة وضاعت معالم تلك القبور لمرور فترة زمنية طويلة على تلك الأحداث حيث نجحت تلك الجهود بالأستدلال على قبور البعض من الشهداء وتم نقل رفاتهم الى مقبرة شهداء الحزب الشيوعي العراقي في اربيل أو اماكن اخرى هي خطوة جيدة، نتمنى من رابطة الأنصار وبالتعاون مع الجهات ذات العلاقة مواصلة هذه الجهود لمعرفة اماكن قبور شهداء آخرين...انها مهمة صعبة بالتأكيد ولكن ارواح رفاقنا ستبقى تنظر ألينا.

ونحن نتابع هذه الجهود تذكرت قصه حدثني عنها احد أبطالها وهو نصير شيوعي من الأنصار اليونانيين.

إلتقيتهُ صدفة مع فنجان قهوة في كافتريا أحد المولات في كندا، رجل ناهز السبعين من عمره، يوناني الأصل، ذو شعر ابيض، نقشت السنين القاسية الصعبة التي مر بها تجاعيد واضحة على قسمات وجهه الأبيض، كان على معرفة واطلاع بتأريخ العـراق وحضارته أكثر مما يعـرفه العراقيون أنفسهم، سـاهم في حرب الأنصار اليونانية ضد أحتلال القوات الألمانية لليونان خلال الحرب العالمية الثانية والتي امتدت من عام 1942 ــ 1944، قتل معظم أفراد عائلته في تلك الحرب، ففي تلك الفترة ظهرت جماعات مسلحة تدافع عن الوطن ومقاومة الأحتلال ذات انتماءات سياسية مختلفة وكانت أهم تلك الجماعات السائدة هي جبهة التحرير الوطني اليسارية وفرعها العسكري المسمى ( جيش التحرير الشعبي اليوناني) التي كانت تحت قيادة الحزب الشيوعي اليوناني وكان صاحبي هذا احد اعضاء ذلك الجيش.

توطدت العلاقة بيننا وعادة ما كنا نلتقي لشرب فنجان من القهوة كل نهاية الأسبوع لنتبادل آخر الأخبار وما يحدث من مستجدات على الساحة الدولية، ويجرنا الحديث عن وضع العراق وما وصل أليه الآن من مآسي، ويذرف الحسرات على بلد الحضارات وكيف أصبح الآن !!!، بلد تسوده الفوضى والصراعات السياسية والطائفية والقومية، وخلال الحديث وعندما علم بإنضمامي لفصائل الأنصار الشيوعيين المقاتلة ضد نظام صدام حسين الدكتاتوري في الثمانينات من القرن الماضي أطمئن لي وأحس إن هناك شيئا" مشتركا" يربطنا مما ساعد على توطيد علاقات الصداقة بيننا وكشف بعض اسرار حياته الشخصية.

قال لي في احدى الجلسات وبعد شرود لعدة ثوان، لديّ أمنية أود تحقيقها قبل أن أغادر هذه الدنيا لكي أكون مرتاح الضمير، لم يفصح لي عن ماهية أمنيته رغم إلحاحي عليه، وفجأة غاب عني أسابيع عدة، راودتني كثير من الهواجس فليس من عادته أن يغيب عني كل هذه الفترة، حاولت تعقب أخباره من الذين يعرفونه من الأصدقاء دون جدوى

ثم ألتقينا من جديد وبادرته قائلاً .....أين كنت يا صديقي ؟؟ لقد قلقت عليك كثيرا" .

أبتسم لي قائلا"، كنت في مهمة حققت فيها أمنيتي التي أخبرتك عنها ذات مرة والتي لازمتني طيلة أكثر من خمسين سنة ....وأخذ يسرد لي قصته....

في معركة دارت بين مفرزة من المقاومة اليونانية اليسارية كنت احد افرادها وبين القوات الألمانية المحتلة لأرض وطني اليونان وفيها أستشهد صديقي ورفيقي وابن قريتي ( زوربا ) دون أن تعلم عائلته بالأمر مما أضطرني ورفاق المفرزة الى دفنه على حافة جبل معروف وفي مكان ذو علامات بارزة غير قابلة للنسيان والأندثار.

توالت المعارك والسنين حتى أندحار ألمانيا النازية ونهاية الحرب العالمية الثانية حيث أجبرتني الظروف الصعبة الى الهجرة وحيدا" الى كندا في نهاية الأربعينيات وطيلة السنين التي مرت وأنا في كندا لم أنسى يوماً صديقي ( زوربا ) الذي يتوقع أهله عودته كل يوم وكانت أمنيتي أن أبلغ عائلة ( زوربا ) بأستشاد أبنهم وأشاركهم حزنهم ونقل رفاته الى القرية..

سافرت في غيابي عنك الى وطني اليونان خصيصا" لهذا الغرض النبيل، في بادئ الأمر كان برفقة بعض الأصدقاء وذهبت الى قبر رفيقي وتأكدت منه ووضعت أكليل من الزهور عليه ثم ذهبت الى قريتي التي عشت فيها طفولتي وصباي، وجدت كل شئ قد تغير بعد خمسين عاما"، القرية قد توسعت وفتحت بها شوارع حديثة وبنايات جديدة، أزيلت الأحياء القديمة وظهرت أحياء جميلة حديثة الطراز وأدخل أليها الكهرباء، جيل كامل أنقرض وظهر جيل جديد آخر من الشباب لا يعرف شيئا" عن ماضي القرية وأبطالها المناضلين الذين أستشهدوا دفاعا" عن الوطن وحريته.

بقيت حيرتي موزعة لا أعرف ماذا أفعل وكيف أصل الى عائلة رفيقي زوربا، وبعد تحقيق طويل مع بلدية القرية والشرطة المحلية وسكان القرية تم الأهتداء الى مختار القرية والأكبر سنا" فيها من الرجال الأحياء الذي أخبرني بأنه لم يبق من عائلة ( زوربا ) غير أخته الصغرى وهي أمرأة عجوز تسكن عند أطراف القرية.

توجهت لبيتها وطرقت الباب وأطلت عليّ أمرأة تجاوزت الستين من عمرها وبعد التحية سألتها.

ـــ هل انتِ أخت زوربا ؟؟ مقدماً لها باقة من الورد.

ـــ نعم .... ومن أنت ؟ هل تعرف عنه أي شئ؟ متى يعود ؟ هل تزوج أم لا ؟؟

ـــ أنا ( خيروس )....جاركم وصديق الطفولة والشباب مع ( زوربا ) فهل تذكريني؟

وبعد عدة دقائق من الذهول تذكرتني وحضنتني وهي تذرف الدموع ودعتني للدخول، وعلى قدح من الشاي شرحتُ لها قصة بطولة وأستشهاد رفيقي ( زوربا ) وفي أي مكان دفن، وأنه جاء من كندا لغرض نقل رفاته الى مقبرة القرية وليحقق أمنيته على حسابه الخاص لكي يعرف أهل القرية شبابها الأبطال الذين ضحوا بحياتهم ضد الأحتلال وفي سبيل حرية وأستقلال الوطن.

تم التعاون بيني وبلدية القرية لعمل ضريح مناسبا" لشهداء المقاومة يتوسطه رفاة رفيقي ( زوربا ) وأصبح هذا الضريح مزارا" لكل أهل القرية والوافدين لها وبذلك حققت ما لم يحققه الآخرين تجاه رفاقهم الشهداء رفاق النضال.

والآن عدت الى كندا بعد أن أتممت ما كنت أحلم به وأنا مرتاح الضمير ....

ذكرني هذا الوفاء بكثير من الأحداث التي نواجهها الآن نحن الأنصار الشيوعيين العراقيين... وأكيد ان الكثير منا ما زال يحمل نكران الذات والمحبة والوفاء والأخلاص لرفاقهم الأنصار الذين استشهدوا وضحوا بحياتهم من اجل الشعب والوطن، وكم أعطينا من الشهداء في معاركنا ....

ومن خلال هذه التجربة وما قدمه ( خيروس ) لرفيقه، علينا جميعا ان نتكاتف ونتعاون وندعم ما تقوم به رابطة الانصار في زيارة قبور رفاقنا الشهداء في المناسبات ونضع باقات ورد على قبورهم، وان نبحث عن قبور الذين استشهدوا في المعارك ولم نتمكن من سحب جثامينهم الطاهرة، كما تقع علينا مسؤولية كتابة سيرة حياتهم تمجيدا لذكراهم وبيان بطولاتهم والمطالبة بحقوقهم كاملة.