كم يحتاج الشيوعيون وهم يتوجهون الى الانتخابات ان يستعيروا من التاريخ مكونات شخصية لقيادات شعبية ملئت قلوب الجماهير حبا ونبلا  وإيمانا بمستقبل زاهر،  يوم كان الانتماء للحزب الشيوعي يكلف الشخص حياته. فمن كان لا يعرف كاظم الجاسم ومعن جواد في الفرات الاوسط، وتوما توماس في الموصل، وعلي الشيخ حمود والشاعر زاهد محمد في الحي، وسعيد متروك في الكاظمية، وعبد الواحد كرم وفعل ضمد في العمارة، وابو سرباز في السليمانية، وعلي خليفة في كركوك، وهندال جادر في البصرة، وعشرات غيرهم على امتداد ارض العراق، يوم كان الصراع على اشده بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي، ويوم كان الوفاء دين للرفقة. وبعد انهيار النظام الاشتراكي، بدأت الرأسمالية زحفها لاقتلاع كل القيم الانسانية الملازمة للفكر الاشتراكي، وما هي الا سنوات قلائل حتى اصبح الدولار الرب القادر على تسيير كل شيء، وفقد بعض الشيوعيين بوصلتهم وباتوا يحاكمون تاريخهم وتاريخ حزبهم بنفس منطق الربح والخسارة لقيم السوق، لا يفرقون بين مرحلة وأخرى، ولا يفرقون بين (انتصار) يزيد و(خسارة) الحسين.

تملكتني هذه الكلمات وأنا اقرأ مذكرات الرفيق ابو سرباز (احمد باني خيلاني)، وقد تطرق لذكر احدى هذه القيادات الشعبية وهو مام علي خليفة، الذي نذر حياته وحياة عائلته لنبل المبادئ التي بشر بها الحزب الشيوعي. مام تعني باللغة الكردية العم، مام علي خليفة قصير مربوع ويمتلك قوة جسدية يحسد عليها، كان قد تجاوز الخمسين من العمر عندما عرفته لأول مرة في مقر قاطع السليمانية وكركوك لأنصار الحزب الشيوعي عام 1982. كان يرفض اعفاءه من المشاركة في الاعمال اليومية للأنصار، حراسات، خفارات الخدمة الرفاقية، جمع الحطب، بناء الغرف والقاعات من الحجر، حاله حال جميع الانصار. ابنائه الخمسة توزعوا بين المفارز والمقرات والسرايا المقاتلة، وكان اكبرهم  (محي الدين) الذي كان يعمل لاعادة تنظيمات الداخل في كَرميان، وهو السهل الممتد بين طوزخرماتو في كركوك الى جبال قرداغ في السليمانية.

علي خليفة كان يملك محلا تجاريا في طوزخرماتو يتاجر بين الخالص او (ديل تاوه) كما يحب ان يسميها باسمها القديم، وبين طوزخرماتو وكركوك في الحبوب والتبغ والتمور. كان معروفا ليس لأبناء طوزخرماتو فقط بل لكل القرى والبلدات الممتدة بين الخالص وكركوك. يجيد الكردية والعربية والتركمانية وشيء من الكلدانية، لم يدخل المدرسة وتعلم القراءة والكتابة بجهود شخصية. شارك في اغلب نشاطات الحزب منذ خمسينات القرن الماضي، وتعرض عدة مرات للاعتقال. رغم مرحه وحبه للنكتة كان عصبي المزاج، وسرعان ما تتحول عصبيته الى شراسة عندما يتعلق الامر بالتجاوز على الحزب. كانت شرطة الامن في قضاء طوزخرماتو تتحاشاه، وعندما يقررون اعتقاله اما ان تذهب اليه مفرزة كبيرة او يستدرجوه الى كمين ينصبونه له.

يقول ابو سرباز في مذكراته صفحة 143 : "بعد ان نقل الشيوعيون بعد انقلاب شباط الاسود من السجن  في كركوك الى محجر لوحدهم، حيث كان في المحجر اثنا عشر شيوعيا، وكانوا يأكلون في سفرة واحدة حتى مجئ الرفيق ابو سرباز ورفيق آخر معه، غير ان الرفاق الآخرين الذين نقلوا الى المحجر بعدنا لم يشاركوا الاكل على السفرة، بل كانوا يأكلون فرادا، وقد سألني عدد منهم عما اذ كان ممكنا ان يأكلوا لوحدهم، وقلت لهم: الامر يعود اليكم. غير ان الرفيق علي خليفة حينما علم بالأمر جاءني قائلا: لماذا قلت لهم ان بإمكانهم ان يأكلوا لوحدهم ؟، قلت: يا عزيزي .. انهم يخافون ولا يرغبون ان يأكلوا معنا على نفس السفرة، ولكنهم جاءوا وسألوني عما اذا كان بإمكانهم ان يأكلوا لوحدهم  وقد اجبتهم ان الامر يعود اليهم، ويستطيعوا ان يأكلوا كما يرغبون. وهذا كل ما في الامر!. ولكن الرفيق علي احتد، وقال بصوت عال: ان من يصبح شيوعيا يجب ان يضع امام عينيه بأنه يمكن ان يقتل تحت التعذيب او في المظاهرات او في الصدام مع العدو! فلماذا هذا الخوف؟! وسب حزب البعث، وقال: انا شيوعي .. وليأت البعثيون ليعدمونني !!.  فهدأته وقلت له: يجب مراعاة وضع الرفاق وتقدير الوضع المأساوي الذي نحن فيه ". 

ويؤكد ابو سرباز :" لقد كان لنا في المحجر رفاق لعبوا حقا دورا رائعا في تقوية معنويات الموقوفين، امثال علي خليفة، وحسن كبابجي ".

عند اشتداد الهجمة على الشيوعيين عام 1978، ترك مام علي عمله وبيته وكل ما يملك، وصعد مع عائلته الى المناطق التي لا تستطيع السلطة الوصول اليها وأصبحت قواعد للأنصار الشيوعيين. وترك زوجته في منطقة "جباري" الممتدة الى يمين الطريق الذاهب من كركوك الى السليمانية عند عائلة صديقه ورفيقه علي جباري، الى ان استقر وضعها وأخذت تعمل مراسلة بريد حزبي بين القيادة وكركوك. وفي خضم اندفاع مام علي وعائلته في العمل الحزبي والأنصاري، وتفرقهم في اماكن مختلفة، وأصبح يعز عليهم اللقاء لفترات طويلة، وعندما كان هو متواجدا في مقر قاطع السليمانية جاءه خبر استشهاد ابنه الكبير (عزالدين). وقد اغتيل من قبل ابن عمه المندس (صلاح) في احدى قرى كَرميان، ثمنا لتسليم نفسه الى السلطة. ويقال انه التحق بالأنصار الشيوعيين لكي يغتال عز الدين نظرا لما يشكله الشهيد من خطورة على السلطة في المنطقة. في تلك الفترة دأبت سلطة البعث على اجبار اقرباء وأبناء الرفاق والشهداء للاندساس بقوات الانصار لكونهم مرحبا بهم، والتحقيق معهم يكاد ان يكون شكليا.

تحمل مام علي الصدمة بكل جلد، فالقاتل المدسوس ابن اخيه، والشهيد ابنه البكر، وكان مثالا في استيعاب الحالة المعقدة لتلك المرحلة. وعندما التقى بزوجته بعد فترة قصيرة على استشهاد محي عزالدين.. نظر الواحد بوجه الآخر لمدة – ربما كانت دقائق – دون ان يتفوه ايا منهما بكلمة واحدة ... لقد تجمد الزمن. كنا اكثر من عشرة رفاق ورفيقات، تجمدنا معهم، ولفتنا الرهبة الى قاع السكون، كنا نرى  ونسمع كيف شيعا ولدهما ودفناه واتفقا في ذلك السكون على ان لا تنتحب، كان يخاف منها ان تصرخ وتوصل تماسكه الى نهايته. وهي  كانت احرص على ان تلوذ وتحتمي بذلك السكوت .... استمر وجودها لمدة اسبوع، ودعتنا، وكنا عندها كلنا ابنائها.

كان الحزب يساعد الانصار بخمسة دنانير شهريا، وأول شيء فعله مام علي هو تركه للتدخين، واقنع الكثير من الشباب على تركه ايضا، كون المساعدة لا تساعد على هذا البذخ ومن العار ان يستدين الرفيق كي يدخن. كان يستفز عندهم الرجولة للتحكم بالسلوك قبل نصيحة الاهتمام بالصحة التي يعتبرها تقليدية. كان معه اثنان من اصغر ابنائه، حسين في الخامسة عشرة، وحسن في الثالثة عشرة، ومن هذه المساعدة عليه ان يتدبر امر مصروفهما. كانت لديه بدلتين، وعندما اهترئت احداهما اراد الحزب ان يساعده في شراء بدلة جديدة، الا انه رفض، ومن المساعدة التي يحصل عليها مع ابنيه تدبر شراء البدلات لثلاثتهم.

في الصفحة (140) يتحدث الرفيق ابو سرباز عن وجودهم في سجن كركوك عام 1962: " كان في السجن قاووش كبير (قاعة كبيرة) يشغله الفلاحون الفقراء، وكان رفيقنا علي خليفة وهو كادر معروف في منطقة كركوك مراقبا للقاووش ويعامل الجميع بصورة متساوية وجيدة، ويراعي المسنين والمرضى، ويهتم بنظافة القاووش، ويوزع الاكل عليهم وخاصة اللحم بالتساوي، على خلاف ما كان يجري في الغرف الاخرى. فحاول قسم من كوادر حدك (الحزب الديمقراطي الكردستاني) تبديله وتنسيب شخص آخر مكانه من جماعتهم، فأجروا انتخابات، غير ان الفلاحين الفقراء صوتوا بالأغلبية لرفيقنا علي خليفة رغم محاولات الجماعة لمنع الفلاحين من التصويت له لكونه شيوعيا دون جدوى، فقد انتخبه الفلاحون بأغلبية ساحقة رغم كون غالبيتهم من الموالين لحدك ".

الشهيد الثالث كان ابنه (ابو فيان) محي الدين ، وسيما ونحيلا، ونسميه تحببا المسيح لكثرة الشبه بينه وبين صورة المسيح وهو على صليبه. كان من الشيوعيين الذين يجمعون بين ثقافة عالية وبين امكانيات ميدانية تعرف كيف تتعامل مع الجميع. ابو فيان استشهد قرب مجمع الصمود القسري بعد الوشاية المعروفة من قبل المندس (شورش) وهو من أهالي منطقة زنكبات ، ابو فيان لم يزكيه لمدة عامين على التحاقه في الانصار، كان شديد الحذر منه الى فترات طويلة. الا ان بقاء شورش  فترة طويلة في الانصار، وإخلاصه في العمل، وعدم تردده عندما يكلف بالخروج مع أخطر المفارز، دفع البعض لتزكيته بمن فيهم صديقه البطل الشهيد احمد بازوكا، وهو ما اثر على موقف ابو فيان منه، حتى تم له استدراج ابو فيان الى منطقة قريبة مجمع الصمود ليغدر به شورش  في نيسان 1989عبر كمين محكم لجحوش حمه فراش ، فيستشهد الرفيق ابو فيان ويجرح الرفيق أحمد بازوكا ويقع في الاسر ويعدم في بدابة 1991 في سجن ابو غريب ، فيما التحق الخائن شورش بالسلطة بعد الكمين مباشرة ليعمل في مفرزة استخبارات كلار  .

كان مام علي خليفة يفتتن بالتفاصيل الاخلاقية للإنسان المبدئي، ويمتلئ  بالفخر والامتنان للرفيق الذي يكون ضميره كحد السيف في استقامته. كان يعمل في تجارة التبغ والتمر والحبوب، وفي احدى المرات باع خمسين حلانة تمر الى شخص يعرفه وبالاتفاق فقط على ان يأتيه في اليوم الثاني. والحلانه اسطوانة تتم حياكتها من خوص سعف النخيل ويكبس فيها التمر، وتزن عشرين او خمسة وعشرين كيلوغرام للكبيرة منها. كان سعر الحلانة مائتي وخمسين فلسا، وجاء مشتري آخر ودفع له ثلثمائة وخمسين فلسا في الواحدة، الا ان مام علي رفض ان يبيع رغم انه سيربح خمسة دنانير اضافية وفي فترة الستينات من القرن الماضي. وانتظر المشتري الاول الى اليوم الثالث حيث استلم المبلغ وسلمه البضاعة.

سأله ابنه ماجد: لماذا لم تبع الثاني ولا احراج عليك، فهذه هي التجارة ؟!، اجابه مام علي: ان اتفاقه الاول اهم من الربح، والصدق هو رأسماله الحقيقي في التعامل مع الآخرين. يقول ماجد: انها احد الافكار التي نبتت في داخلي، وأخذت توجه حياتي.

استشهد ماجد الشهيد الثاني  ايضا في معارك الانفال الشرسة  في معركة تازه دي عام 1988الذي شنها النظام الصدامي المقبور على كردستان بعد انتهاء حربه مع ايران. وكان  ابنه الآخر حسين الذي يصغر ماجد شارك ذات المعارك وظل مع اخر مفرزة للانصار في كرميان بداية التسعينات ، وسمعت من احد الرفاق انه يسكن في السليمانية مع والدته وشقيقاته ، و اصغرهم حسن يعيش في بلاد المهجر في المانيا . مات مام علي وهو فخور بالحياة التي عاشها، كما يؤكد رفاقه الذين لازموه الى نهاية رحلته. لقد كانت حياته وحياة عائلته احد الروافد التي امدت التاريخ الوطني بخيرة ابنائها، ويبقى مام علي وعائلته احد المشاعل الوهاجة في تاريخ الشيوعيين العراقيين كونهم المدافعين الحقيقيين عن حرية العراق.

عن جريدة النصير الشيوعي