انحدرت من عائلة شيوعية تقطن جنوب العراق، دخل الحزب الشيوعي إليها منذ بداية الخمسينات، وإليها يعود فضل انتمائي للحزب. لذا فإني عشت ضمن ظروف وأجواء وعلاقات كان أغلبها مع الشيوعيين وأصدقاءهم، حيث الأحاديث والأماسي السياسية والثقافية والنقاشات التي تدور عن هموم الناس والمشاكل اليومية لهم، وكذلك متابعة الإصدارات الحزبية.

أكملت دراستي الإعدادية عام 1982. وبحكم الظروف السياسية الصعبة التي عاشتها عائلتي، أسوة بالعوائل العراقية الأخرى، في ظل الإرهاب والملاحقة ورقابة أجهزة السلطة المتعددة والمضايقات اليومية والجرجرة (الاقتياد التعسفي) المتكررة إلى دائرة الأمن العامة لوالدي وباقي أفراد العائلة، لشك السلطة بأن علاقتنا مستمرة مع الحزب..الخ، فكرت بالتوجه إلى كردستان.

كانت العلاقة التنظيمية خيطية (فردية). وكنت أساهم بتوزيع الأدبيات والنشرات والقيام بمهام أخرى. ولما أصبحت ظروفي صعبة، طلبت من الحزب الموافقة على الصعود إلى الجبل ( الذهاب إلى كردستان ). وبعد مدة وصلتني موافقة الحزب مع خارطة للوصول إلى مكان محدد وكذلك رسالة مغلقة.

عدت إلى البيت وأنا أشعر ساعتها، بأني لست على هذا الكوكب، لأني كنت أعتبر أن الشيوعي الأفضل هو الذي في كردستان. وأن الحزب موجود في مقرات بجبال كردستان، وأنا أطمح لتقديم ما هو أكثر مما نقوم به في مدينتنا، إضافة إلى مشاعر الشوق للقاء أخواني بعد فراق أربعة سنوات، وكذلك حماس الشباب الذي يدفعني لإثبات رجولتي في الحزب عن طريق حمل السلاح والنضال في سبيل أهداف الحزب.

في 28 / 4 / 1983 طلبت رأي والدي في أمر التحاقي بالحزب في كردستان، فكان ما قال : " أنك منذ ولادتك لست ملكي، بل ملك الحزب، فاذهب إلية يا ابني !"

سافرت إلى بغداد فجر اليوم الثاني وكان عمري 19 عاماً ولم يسبق وأن سافرت خارج مدينتي بمفردي قط.

أولى مخاوفي كانت تصب في احتمال أن أضيع في بغداد أو في مرحلة أخرى من الطريق، وقد لا أوفق في العودة إلى البيت، أو حتى حين تواجهني بعض العقبات، فمن الذي أسأل، ومن يضمن أن لا يكون هذا من مخابرات أو أمن السلطة ؟! العديد من الأسئلة والمخاوف كانت تزدحم في رأسي، كما أني لم أفكر باحتمال أن تكون الخارطة التي معي غير دقيقة.

وصلت بغداد، وفي اليوم التالي تحركت صوب مدينة كركوك ومنها إلى قضاء كفري، حيت توجد المحطة الأولى. نزلت من السيارة وأنا في حالة من التوتر رغم أن الخارطة تشير إلى اسم مقهى ينبغي عليّ الجلوس في الزاوية اليسرى منها، ليأتي رجل بلباس كردي يحمل الأوصاف كذا.. فيقول لي كلمة السر. وإذا لم يأت هذا الشخص فعلي الوقوف في الساعة العاشرة والنصف أمام المقهى فتأتي سيارة ( لاندروفر ) زرقاء تحمل الرقم … فأتوجه إلى سائقها واخبره بكلمة السر ويتكفل هو بإيصالي إلى مقر الحزب.

كل ما يتعلق بالمقهى والسيارة لم يتحقق. وعلمت بعدما وصلت إلى أحد المقرات لاحقاً، أن هذا الخط قد كشفته السلطة وجرى التخلي عنه.

أخذت بالتحرك أمام المقهى مدة ثم أرجع للجلوس في المكان المحدد حتى الساعة الواحدة ظهراً. إضافة الى  إحساسي بالجوع، كنت في حالة من التوتر والقلق الشديدين. وفي داخلي كان هناك إصرار على المواصلة والانتظار حتى لو اضطررت إلى المبيت في أحد فنادق كفري، دون أن أعرف فيما إذا كان في كفري فندق. بعد فترة توجه أحد الجالسين نحوي وراح يكلمني باللغة الكردية فلم أفهم منه شيئاً. ولما تأكد من أني غريب ولا أعرف الكردية، خاطبني بالعربية وهو يطلب أن أسمح له بالجلوس قربي، وقال بأنه راقبني وأنا في حركتي وترقبي منذ ساعتين ثم سألني فيما إذا كنت أريد الوصول إلى مكان محدد، فأخبرته بأني أريد الوصول إلى قرية (قوالي). وحينما سألني عن سبب ذهابي إلى تلك القرية، قلت له بأن لوالدي دين على أحد الفلاحين هناك، فقد باع ( تراكتور ) بألفي دينار، وأنا ذاهب لاستلام المبلغ. وافق الرجل على إيصالي بمبلغ (15) دينار فوافقت.

تحركت السيارة بعدما اشتريت ( سندويشة ) تناولتها في السيارة. وبعد تجاوزنا كفري والربايا العسكرية، قال السائق : " الآن انزاح الخوف ولم يبق للحكومة وجود. فالبيشمرﻪﮔ هم الذين يسيطرون على هذه المنطقة، فهل أنت شيوعي ؟!"

فاجأني هذا السؤال فأنكرت ذلك.، إلا أنه أخبرني بأن عشرات من هم مثلي يأتون بأعذار مختلفة من أجل الوصول إلى تلك القرية. وختم قوله :" بما أنك عربي وتريد الوصول إلى تلك القرية فأنت شيوعي مائة في المائة، حتى لو أنكرت ذلك".

قبل الوصول إلى قوالي بأربع ساعات، أي في منطقة  ﮔرميان التابعة لمحافظة السليمانية، توقفت السيارة لنفاذ الوقود. انتظرنا وصول سيارة لمساعدتنا، ولكن بعد نصف ساعة تقريباً وصل تراكتور، فأوقفه السائق وبدأ يتكلم معه، ثم جاءني ليقول بأن سائق التراكتور يريد خمسة دنانير لإيصالي للقرية المذكورة. وقبل أن أتوجه إلى التراكتور حذرني السائق من فتح أي حديث مع صاحب التراكتور. لم أفهم سبب هذا التحذير في حينها.

لم يكن ركوب التراكتور مثل السيارة، فالاهتزاز الشديد، إضافة لإحساسي بالجوع وصوت السائق المرتفع ومن دون انقطاع الذي يتكلم لغة أجهلها، سبب لي حالة من التعب والإنهاك. ولم أفهم منه سوى كلمة شيوعي، التي يلفظها بعصبية غير اعتيادية، مما أشعرني بأنه ليس من أصدقائنا. كما كنت أجهل أن هناك خلافاً كبيراً بين حزبنا والاتحاد الوطني ( أوك )، وأن الأوضاع صعبة وعلى وشك الانفجار، ولم يخطر ببالي أن صاحب التراكتور قد يكون من ( أوك ).

أوقف التراكتور على ربوة عالية وأشار لي على قرية بيوتها من الطين وهو يتكلم معي بالكردية، فلم أميز منه سوى كلمة قوالي. سلمته الخمسة دنانير ونزلت مسرعاً نحو القرية، التي كان معظم سكانها خارج البيوت. كانت عيونهم مصوبة نحوي بشكل مريب، اعتبرت أن سبب ذلك هو ملابسي غير الكردية، التي ربما توحي لهم بأني من أعوان السلطة. أخذت أسألهم عن مقر الحزب الشيوعي فلم يرد علي أي منهم بل كانوا يبادرون لدخول منازلهم، فخشيت بأن تكون تلك القرية ليست قوالي التي أقصدها. توجهت إلى أحد الأطفال بعمر ثماني سنوات تقريباً، وهو الوحيد الذي لم يدخل بيته، وسألته بالعربية عن مقر الحزب الشيوعي العراقي، فرد علي بالكردية ودخل الدار بعد أن أشار لي بيده أن أنتظر. بعد خمس دقائق خرج ليشير لي بأن أتبعه حتى أوصلني إلى بيت في أعلى القرية، عرفت بعدها بأنه ديوان خانه ( أي مضيف القرية ). لم يتركني الشيخ، الذي دخل إلى الديوان خانه، الانتظار كثيراً، بل سلم علي وراح يتكلم معي بلغة عربية ركيكة. طلبت منه إيصالي إلى مقر الحزب. أثناء ذلك دخل رجل آخر كتفه ملفوفة بضمادات ولغته العربية ركيكة أيضاً. وعرفت فيما بعد أنه المقاتل ( أحمد بازوكا )، أما الطفل فكان اسمه (حسن مام علي ) وهو من عائلة شيوعية جميع أبناءها مقاتلون في صفوف أنصار حزبنا، وألتحق هو أيضاً بعد عدة سنوات.

طلبت من أحمد إيصالي إلى الحزب، فأخبرني بأن الأوضاع صعبة جداً، وأن الأنصار انسحبوا إلى منطقة قرداغ، وأن قوات ( أوك ) منتشرة في المنطقة وكمائنها في جميع المناطق المحيطة، لذا فمن الخطر المجازفة بإيصال أي شخص إلى المقر. وعلمت بعد ذلك أن الرفيق أحمد بازوكا قد جرح في أحد  الكمائن التي نصبتها قوات ( أوك ) لمقاتلينا، وأنه، أي أحمد، متخف في القرية للعلاج. طلب مني الانتظار حتى يشفى جرحه ثم يوصلني إلى المقر، لكنني رفضت ذلك وألححت بضرورة الوصول إلى المقر لتسليم البريد الحزبي.

جريدة النصير الشيوعي العدد 14 أيلول 2023