بقلم النصير الراحل محمد خلف مجيد ( أبوشروق )

اعداد علي محمد/ أبو سعد اعلام

خريف عام 1979 في لبنان وفي الموقع الجديد بعد أن تركنا مواقعنا السابقة في طرابلس شمالا. وجوه شابة متحمسة تتدرب وتتدرب لأجل مقارعة النظام الذى اعتدنا ان نتلقى منه العديد من الضربات فيما سبق دون رد. وقبل الغروب أتـت السيارة العسكرية التي ستقلنا إلى بيروت للقاء القيادة كما قيل لنا. حينها لم نعرف هل هو مجرد لقاء أو مهمة  أو تعليمات. لكن حين طلب منا اصطحاب حقائبنا أدركنا بأن لا عودة لهذا الموقع. ودعنّا الرفاق وصعدنا السيارة وكان معي الرفاق أبو حازم وأبو وجدان. وصلنا بيروت بعد المغرب وهي المرة الأولى التي نرى فيها المدينة بأضوائها وازدحام شوارعها. دخلنا مكتب الحزب وكان هناك الرفيق أبو نبيل وأبو ناصر والرفيق سلام وهو رفيق كردي سيكون ضمن المجموعة.

   بعد الترحيب وشرح سياسة الحزب والوجهة الجديدة له، بانتهاج خط النضال المسلح حيث علمنا بأن هناك قواعد للحزب وعمليات عسكرية يقوم بها الرفاق وخاصة في قاطع السليمانية. كان الرفيق أبو نبيل يتحدث وأرى بريق الفرح في عيون الرفيق الرائع أبو حازم. انتهى الرفيق بقوله بأننا سنكون المجموعة الأولى التي ستتوجه للوطن ونجاحنا سيفتح الطريق لالتحاق المئات من الرفاق الذين انهوا تدريباتهم واستعدادهم للالتحاق بقوات الأنصار. بداخلي شعرت بفرحة تصل حد الزهو لأننا سنكون طلائع حركة الأنصار وعشت في لحظات حلم اليقظة مسترجعا كل ما قرأت من تجارب الشعوب والاسماء اللامعة من أمريكا اللاتينية حتى الهند الصينية. ويستمر الرفيق موضحا باننا سنجد بضع مئات من الرفاق أمامنا في القواعد ولم ينسَ التأكيد على سرية المهمة المكلفين بها واعطانا فرصة أربعة أيام لنكون مستعدين للتوجه، لذلك فنحن أحرار في تحركنا الآن على أن نكون ضمن حدود المنطقة التي تتواجد فيها المنظمة والجبهة الديمقراطية وحدد لنا مكان الاقامة في إحدى الشقق مع بعض الرفاق والتأكيد ثانية على سرية المهمة.

دخلنا الشقة المخصصة لنا ووجدنا فعلا بعض الرفاق لكن الوجوه توحي بعدم الترحيب ولا أعرف السبب.

وضعنا الحقائب وحملنا جوازات السفر وذهبنا لاستطلاع المدينة أو الحضارة التي افتقدناها بعد أشهر في المعسكرات، طبعا، باستثناء الأيام القليلة التي كنا نرفه بها عن انفسنا في طرابلس بالذهاب للبحر.

عدنا للشقة بحدود الحادية عشر ليلا وبدلا من الترحيب واجهنا وجه يقطر لؤما وقال بالحرف الواحد ( منين ذولي ) طبعا اسمه محفور في الذاكرة انه ( أبو إ.. ) وكان عضوا متقدما  في الحزب بل وعضوا في منظمة بيروت لكن مسيرة الحزب تلفظ امثاله وهكذا طرد بعد سنوات من الحزب .

  على اثر هذا اللقاء غادرنا الشقة وتوجهنا للمبيت مع رفاق نعرفهم من صوفيا كانوا قد عرضوا علينا ذلك. طيلة الأيام الأربعة، لكنها مرت بهدوء ونحن نحمل الفرحة والتصميم على نجاح المهمة التي كلفنا بها. وهكذا التقينا الرفيق أبو نبيل ثانية وبعد التوديع أهدى المجموعة راديو صغير للاستفادة منه. وكان الرفيق أبو حازم يحمل مبلغا بحدود مائتي دولار أراد ان يتبرع بها للحزب لكن الرفاق قالوا له ربما تحتاجونها في الطريق. من بيروت إلى سوريا تحركنا نحن الأربعة وحصلت لنا اشكالات في البوابات اللبنانية حيث أن جوازاتنا لم تحمل أية اشارة لدخولنا لبنان فمن اين اتينا. وبقينا مصرين على أننا طلبة باستثناء الرفيق سلام  حيث كان جواز سفره مختلفا. والمهم وصلنا دمشق وبمعرفة الرفيق سلام ذهبنا إلى إحدى الشقق الارضية واستقبلنا وجه بشوش عرفت بعد خمسة سنوات بانة رفيق من الحزب الشيوعي السعودي وأنه مستأجر هذه الشقة.

كان الرفيق سلام هو الذى يتلقى التوجيهات والصلة لذلك فقد حدد اليوم التالي لسفرنا إلى تركيا مباشرة دون المرور بأية محطة في القامشلي أو غيرها. وكنا قد جهزنا تأشيرات الدخول لتركيا كسائحين واشترينا بعض اللوازم مثل الحذاء الرياضي الذى سيساعد في المشي وما إلى ذلك واتفقنا إذا حصلت أية اشكالية لأي واحد منا فإن الآخرين يواصلون المسيرة إلى نقطة اللقاء الثانية في الجانب التركي. بعد مسيرة طويلة في السيارة وصلنا الحدود السورية التركية قبل المساء وبدأت اجراءات التفتيش الروتينية، لكن مفتشي الجمارك على الجانب السوري توقفوا كثيرا أمام حقيبة الرفيق أبو وجدان التي كان يحمل بها دفاتر اشعار ومسرحيات من تأليفه وصورا عديدة لنا أيام معسكرات التدريب لم نكن نعلم بأنه جلبها معه. واثارت انتباههم فقرة من مسرحية تقول (يبقى رجل الأمن قذرا). سألوه ما المقصود فقال لهم هذا رأي الكاتب. وسألوه عن رأيه هو، عندها طلبنا من بقية زملائه التدخل لأن البوابة التركية ربما تقفل بعد الغروب. وأهديناهم بعض الكاسيتات لفنانين عراقيين. لكن الغريب أنهم تأملونا جيدا وتمنوا لنا النجاح في مهمتنا. وبعد أن عبرنا الحدود لاحظنا باننا نحن الثلاثة أنا والرفيق أبو حازم وأبو وجدان نلبس نفس الاحذية الرياضية ونفس سراويل الجينز. وكانت البوابة التركية تبعد بضعة امتار قطعناها مشيا فوجدنا أنفسنا أمام الجندرمة التركية ونقطة الحدود. توجهنا مباشرة للبوابة المخصصة بالتدقيق في جوازات السفر وكانت المهمة أسهل في الجانب التركي فكان لعلب الدخان مفعول سحري في سرعة ختم الجوازات مع الابتسامة بالسائحين الأربعة.

وحيث لا تبعد نقطة اللقاء المحددة عن الحدود كثيرا فقد انتظرنا في مقهى. جاءت سيارة حاور راكبيها الرفيق سلام بعد أن تعرفوا علينا بإشارة معينة. وكانت لديه كل التعليمات واخبرنا بان الرفاق من حزب كوك الكردستاني التركي وهم سيوصلونا للقاعدة لذلك سنصعد معهم. أنا واثق بان بقية الرفاق كانوا يسألون أنفسهم مثلي: القاعدة ( كم تبعد من هنا؟ هل سنجد فيها رفاق نعرفهم؟ ما هي المهام التي تنتظرنا؟ ----الخ.

لاحت في الأفق قرية على الطريق من خلال المصابيح المضاءة وابطأت السيارة سرعتها وانحرفت جهة اليمين وبانت بعض الشيء التضاريس الجبلية. توقفنا عند بيت كبير وأخبرنا الرفيق سلام بأننا سنبيت الليلة هنا وغدا نواصل المسيرة. رغم إننا لا نعرف اللغة الكردية، لكن ترحاب المستقبلين ووجوههم الفرحة أنستنا تعب اليوم الأول. كان الرفيق سلام يتكلم ويتكلم ونحن صامتون سوى مجاراة الابتسامة. بعدها جاءت أول وجبة طعام وهي جبن وبيض وشاي اضافة للخبز الكردي المعروف وقالو لنا ( فرموا بخو) ترجمها لنا الرفيق بان تفضلوا كلوا.

جريدة النصير الشيوعي العدد 14 أيلول 2023