استقلينا القطار نحن الاربعة (ابو علي ، وابو طالب، وابو هيمن ، وانا) باتجاه القامشلي بعد ان تركنا خلفنا اجمل الايام في الشام. الرحلة تستغرق اكثر من ست ساعات. الطريق كان متعبا، ومملاً ايضا الى حد معين. تقاسمنا مقاعدنا بشكل متباعد نوعا ما عن بعضنا تحسبا لاية اشكالية قد تصادفنا في الطريق من قبل السلطات السورية. نحن سواح نستغل طريق دمشق – القامشلي باتجاه العبور الى تركيا. جلس كل واحد منّا على مقعده، ولم يكن في القطار الكثير من الناس، فكان بامكاننا ان نتبادل المقاعد بين حين واخر. ادار الرفاق الاربعة وجوهمم الى جهة النوافذ للاستمتاع بالطريق حيث القطار يشق طريقه عبر حلب. كل واحد منّا حرك ذاكرته ليعود قريبا أو بعيدا الى الوراء، فمنّا من دخل في ثنايا الوطن قبل مغادرته، ومنّا من عاد ثانية الى ايام الشام القريبة، وهناك من عاد الى ذكريات سنوات الدراسة والعمل. كنا نتبادل مواقعنا في القطار بين الفينة والاخرى، اذهب الى جانب الرفيق ابو هيمن للاستمتاع ببعض الذكريات والمقالب العديدة سواء في الشام أو الجزائر، وذلك من اجل ان يمضي الوقت الممل اثناء رحلتنا الى القامشلي .

وصلنا الى مدينة القامشلي يوم 11 ايلول 1980 ، ابلغنا الرفيق ابو علي بانه علينا عدم الاستعجال بمغادرة القطار بل ابطاء حركتنا لحين وصول الشخص المعني باستقبالنا، وفعلا بعد عدة دقائق وصل شخص يبدو من هيكله فلاح بسيط كهل الملامح، تحدث مع رفيقنا ومن ثم تجمعنا حوله ( هو الرفيق طيب الذكر ابو وحيد ، من رفاق الحزب الشيوعي السوري ، ينتمي لعائلة فلاحية كردية ). بعد معرفتنا به اطلقنا عليه الرفيق " ابو وحيد القرن " لجرأته. اصطحبنا معه الى احد البيوت الطينية في اطراف المدينة، وبسرعة دخلنا الدار دون ان يشعر بنا احد المارة. قدموا لنا ما توفر من الاكل الفلاحي البسيط ولكنه ذو طعم مميز، الجبن واللبن وارغفة من الخبز الحار. استقرينا في احدى غرف الدار واستسلمنا للنوم بعد مشقة الطريق . استلمنا من صاحب الدار بعض التوجيهات الضرورية من باب الصيانة والسرية القصوى. عدم الخروج من البيت الاّ لقضاء الحاجة، وكل ما نطلبه يتم الاستجابة له من قبل الرفيق ابو وحيد الذي يؤكد ان المخابرات السورية وكذلك العراقية لها عيون منتشرة في انحاء المدينة ، ولاجل صيانة تواجدكم المؤقت هنا لابد من الالتزام بالسرّية الكاملة، قلنا سمعا وطاعةً رفيقنا ابو وحيد القرن .

في اليوم الثاني من وصولنا القامشلي حدث ما كان غير متوقع لنا، فحين توجهنا بالسيارة نحو الحدود السورية – التركية من نقطة العبور الى مدينة النصيبين التركية ، وجدنا بان كافة الحدود مغلقة بسبب الانقلاب العسكري الذي كان بقيادة كنعان افرين، فتم غلق الحدود يوم 12 ايلول عام 1980. 

ما العمل ؟، وجهنا سؤالنا الى الرفيق ابو علي مسؤول المجموعة : فقال علينا الانتظار لحين اجلاء غبار الانقلاب، حينها لكل حدث اجراء نقدم عليه، مما اضطرنا للعودة ثانية الى البيت الطيني واخبرنا الرفيق ابو وحيد بما جرى وعلينا الانتظار لحين تتوضح الامور وكيفية العمل في الخطوة القادمة. نعم عليكم الانتظار في البيت وبذات التعليمات ويمكن الرقابة الامنية تزداد في المدينة من باب الاحتراز الامني على طرفي الحدود .

عدنا ثانية الى حساب الدقائق في تلك الدار الطينية وقضاء الانسان حاجته بالخفاء مع كثرة نباح الكلاب حول الدور القريبة من مقر اقامتنا الاجبارية . بعد مرور يومان اخبرنا الرفيق ابو علي بفتح الحدود، وعلينا الاستعداد للسفر خاصة ونحن كما اشرت سابقا نحمل جوازات سفر عادية دون اية مشاكل. استقلينا سيارة الى النصيبين التي لا تبعد سوى دقائق عن الحدود، وصلنا وحجزنا في احد الفنادق المطلة على ساحة المدينة بانتظار الدليل الاخر الذي سوف يتصل برفيقنا ابو علي، قضينا ليلتنا داخل الفندق دون ان نخرج منه تفاديا لاية تساؤلات قد تطرح علينا اثناء التجوال وخاصة النصيبين هي نقطة انطلاقنا باتجاه الوطن .

حسب المعلومات التي عرفتها من خلال شقيقي في دمشق عند اللقاء به قال : الطريق سهل وممكن بواسطة السيارات ومن ثم التركترات حتى نصل الى اول قاعدة لرفاقنا الانصار، ولهذا زدتُّ من شراء المقتنيات من سوق الحميدية ، الان الامور سارت باتجاه اخر، السيطرات العسكرية ازدادت، وسادت حالة التأهب القصوى جراء الانقلاب العسكري، لذا علي التخفيف من حمولتي قدر الامكان. لكني من المستحيل ان اخفف من ثقل جسدي خلال ايام قليلة! بعد النعيم اثناء العمل في الجزائر والانتعاش الذي عشته في الشام لاكثر من ثلاثة اسابيع .

في اليوم التالي جاء ابو علي الينا وقال: رفاق علينا مغادرة الفندق، هناك سيارة في الخارج تنتظرنا، لذا احزموا حقائبكم لنغادر. ركبنا السيارة نحن الاربعة يرافقنا على ما يبدو دليلنا الجديد ، وبعد مسير ليس بعيدا عن المدينة، طلب منا النزول من السيارة وتسلق بعض التلال، يبدو للوهلة الاولى مع حقائبنا ان الطريق شاقا (قلت مع ذاتي ابو مازن سترى نجوم الظهر من الان فصاعدا) بدا التعب ينهار علي بكل قساوته وشدته وكانما اخذت (دوش حمّام) وانا اتابع صعود التلال ، عليك مقاومة الوضع يا ابو مازن ، انت بذاتك طلبت الالتحاق بالانصار وليس للراحة والاستجمام . استمر الحال بنا لساعات عدة متواصلة الى حين وصولنا الى مجموعة بيوت متناثرة هنا وهناك ، اخذنا قسطا من الراحة ، طلبت استئجار حيوان لحقائبي، فجائني الجواب بالرفض لعدم امكانية جلب الحيوانات اثناء مسيرتنا . تركت حقائبي لدى الادلاء على امل ايصالها الى اول قاعدة لانصارنا. راحت افلوسك يا ابو مازن ، فقدت كل شيء ، لم احزن كثيرا سوى على شريط كاسيت لصوت والدتي جلبته معي حينما كنت في موسكو . استمر الحال بنا بين الصعود لجبال مرعبة وبين الاختفاء نهارا في الغابات والبساتين تفاديا لاية مفرزة عسكرية تركية ، وهكذا بعد مسيرة اسبوع وصلنا بشق الانفس الى اول مقر مؤقت لرفاقنا " مقر الفقيد ابو حربي " زال التعب بعد اللقاء بالرفاق، كانوا اكثر من عشرين رفيقا تقريبا، قسم منهم اعرفهم في موسكو والقسم الاخر في الجزائر . وبعد استراحة يومين في ذلك الوادي بين جبال حدود الدول توجهنا بمفرزة كبيرة ومسلحة بكامل الاسلحة الى كلي كوماته ، المقر الانصاري الاول لرفاقنا ، بعد مشقة اقل لوجود الكثير من الرفاق وصلنا خلال ايام الى كلي كوماته يوم 22 ايلول عام 1980 وصادف هذا اليوم الاعلان الثاني لبدأ الحرب العراقية – الايرانية .

جريدة النصير الشيوعي العدد 14 أيلول 2023